في مهمة للتعلّم في زمن الثورة (الحلقة 1)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمّي، محمد معلّم الناس الخير، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فيما أتجهز لرحلة قادمة إلى الشمال السوري المحرَّر، أشارك هنا وعبر تدوينات قادمة مشاهداتي وخبراتي من رحلة قمت بها إلى الحدود السورية التركية في كانون الثاني/يناير 2013 بهدف استطلاع حال الأطفال هناك وتجربة بعض الأفكار عن الكيفية التي ينبغي أن يتعلموا بها في ظروفهم الراهنة. سجلت معظم ما مررت وقمت به بالانكليزية أولًا (لأسباب ليس هذا مقام ذكرها) في تقرير نشرته قبيل أشهر، فمعذرةً منكم.

مقدمة

كان على ملايين السوريين مغادرة بيوتهم منذ آذار/مارس 2011 إلى أماكن أكثر أمنًا سواء داخل القطر أو في دول مجاورة.[1] ومع الجهود الكبيرة المبذولة لتلبية الاحتياجات الأساسية المتزايدة لهؤلاء اللاجئين فإن قليلًا من الاهتمام ينصب على الاحتياجات التعليمية والنفسية للأطفال رغم النسبة الكبيرة التي يشكلونها من تعداد السكان في سورية.[2] عدد لا يستهان به من أطفال سورية خارج المدرسة منذ ما يزيد على العام للعديد من الأسباب: من غير الآمن الذهاب إلى المدرسة، أو أن المدرسة نفسها دُمِّرت أو صارت مأوىً للنازحين، أو أنه لا توجد مدرسة أصلًا كما هي الحال في العديد من المخيمات.[3] يعاني الأطفال كذلك نتيجة العدوان الممنهج للنظام السوري، فإضافةً إلى الاستهداف المباشر لهم [4] فقد شهد معظمهم حالات أصيب أو استشهد أو اعتقل فيها أفراد من عائلاتهم، أو سمعوا قصصًا عن ذلك، وعاش العديد منهم أيامًا طويلةً تحت القصف، ومن نجا من ذلك في المناطق الآمنة نسبيًا لا يفوته سماع أصوات القصف وطلعات الطيران الحربي بشكل متكرر.

نسبة المدارس المدمرة أو المستخدمة مآويًا (بتاريخ 5 آذار/مارس 2013. المصدر)
نسبة حضور الطلاب (بتاريخ 5 آذار/مارس 2013. المصدر)

اتصل بنا أواخر العام الماضي إخوة في إحدى الهيئات الإغاثية التي تعمل مع الأطفال السوريين وطُلب منا اقتراح مصادر يمكن للمعلمين استخدامها مع أطفال اللاجئين في الأوضاع الراهنة. كان هؤلاء الإخوة يخططون لافتتاح مدرسة (من النوع التقليدي من المدارس) في إحدى البلدات التركية المكتظة باللاجئين، وأرادوا أن يدخلوا بعض التعديلات على ما يقوم به المدرسون ليأخذوا بالاعتبار ما مر به الأطفال. تطور النقاش بمرور الوقت لنقترح بيئات وأنشطة تعلّم مختلفةً تمامًا عما يجري في المدرسة. كان لنا بدايةً المأخذان التاليان على المدرسة بشكلها التقليدي:

  • أن التعلّم بشكله الفعال يحدث عندما ينخرط الأطفال في عملية التعلّم عبر إنشاء مخرجات ذات صلة باهتماماتهم وحاجات المجتمع من حولهم، وهذه ليست الحال في المدرسة.
  • أن المدرسة مصممة لتكون بيئةً تنافسيةً يسعى فيها الأطفال بشكل فردي للحصول على رضا الآخرين (استحسان المدرس والأهل، والدرجات والشهادات)، بينما الأطفال، في الحالة السورية خصوصًا، بحاجة إلى بيئة يغلب عليها الأمان والاحترام والتعاون، ليستطيعوا استعادة توازنهم بعد ما مروا به من أحداث مروعة.

أستخدم لفظ التعلّم Learning بدل التعليم Education لأركز على أن بناء المعرفة والخبرة هي عملية فعالة نقوم بها بأنفسنا أولاً وليست فعلاً سلبياً نتلقى فيه ما يقدمه الآخرون لنا.

اعتدت أن أضع الأمر بصياغة لأستاذي ميتشل رزنك: ليس من المنطقي أن يتعلم الأطفال السوريون باستخدام الأساليب التقليدية في ظل الظروف غير التقليدية التي يمرون بها. كتبت آنذاك مقترحًا ركزت فيه على المبادئ الأساسية التي ينبغي أن تحكم كلاً من بيئة التعلم والأنشطة التي سيتعلم الأطفال من خلالها، ولكني لم أركز على محتوىً محدد للأنشطة لسببين:

  1. رغم أن محتوى الأنشطة مهم، إلا أن الأكثر إلحاحًا وأهميةً في هذه المرحلة هو الكيفية التي سيتفاعل بها الأطفال مع هذا المحتوى ويحولونه ليعكس ما خبروه (والمجتمع من حولهم) واحتياجاتهم واهتماماتهم. لا نملك الآن كمربين رفاهية أن نقول للأطفال أن يصبروا كي يعرفوا في المستقبل تطبيقات ما نعلمهم إياه عندما يسألوننا عن الفائدة منه، بينما بيئتهم تعج بالتحديات التي يمكن تحويلها بشيء من الاهتمام إلى دروس يمكن للكبار والصغار على حد سواء تعلم الكثير منها.
  2. كانت الاستدامة أحد المعايير المهمة بالنسبة لي أثناء تصميم الأنشطة التعليمية، ولذا أردت بناءها باستخدام الموارد الموجودة في بيئة الأطفال ولتتعامل مع احتياجاتهم المباشرة، ولم أكن أملك للأسف الكثير من المعلومات عن هذين الأمرين آنذاك، كما أنهما – أي الموارد والاحتياجات – يختلفان من مكان لآخر بدرجات متفاوتة.

النقطة الثانية كانت ما شجعني على بدء رحلتي إلى مخيمات اللاجئين. لم أخطط للقيام بأنشطة محددة، وإنما أردت في المقام الأول استكشاف البيئة والموارد والاحتياجات، والكيفية التي يدرك بها الآباء والمربون والأطفال الظروف التي يعيشونها. كانت خطتي زيارة عدة مخيمات على طرفي الحدود السورية التركية، وقضاء وقت مطول في أحدها على كل طرف.

تلمّس الطريق

وصلت في وقت متأخر من ليلة الأول من كانون الثاني/يناير إلى الريحانية، وهي بلدة تركية قرب الحدود مع سورية ، يسكنها حوالي 25 ألفاً من اللاجئين السوريين، وفيها مكتب للهيئة الإغاثية التي تواصلت معها سابقاً. التقيت خلال الأيام التالية العديد من الأطفال والمدرسين الذين لجؤوا إلى البلدة خلال الأشهر الماضية، وأجريت اجتماعات مطولة مع مجموعات من المدرسين لأتعرف على خبراتهم ومدركاتهم عن الأحداث والكيفية التي يمكن بها مساعدة الأطفال في هذه الظروف.

كنت أبدأ اجتماعاتي مع المدرسين بسؤالهم عما يرونه أبرز التحديات التي ينبغي التصدي لها فيما يخص الأطفال وضمان مستقبل أفضل لهم، وأثار اهتمامي آنذاك أن معظم الإجابات ركزت على الجوانب النفسية والاجتماعية (ذكروا مثلاً  مسائل الخوف والثقة بالنفس وبالآخرين والتعامل مع فقد شخص أو شيء عزيز)، وجاء في المرتبة التالية الاحتياجات الجسدية (كالغذاء والعناية الصحية)، وأخيراً عدم ذهابهم إلى المدرسة وما يترتب على ذلك من تأخرهم في التحصيل الدراسي. ولكن حالما انتقلت إلى السؤال عن الكيفية التي يمكن بها الاستجابة لهذه التحديات فإن المدرسين عادوا إلى التركيز على التحصيل الدراسي وأهمية استكمال ما فات من المنهاج 😐 أدركت أن ما لديهم من أدوات لا يكفي للتعامل مع الوضع الراهن، ولكن كان من الجيد، بدايةً على الأقل، معرفة إدراكهم لطبيعة التحديات التي يواجهها الأطفال.

كانت في الريحانية آنذاك ثلاث مدارس للأطفال السوريين، لا تستطيع استيعاب إلا مئات قليلة من الألوف التي لجأت إلى البلدة. زرت إحدى هذه المدارس والتي تديرها مؤسسة سورية كندية، وتبين لي بالحديث مع الإداريين أن الأطفال يدرسون باستخدام الأساليب المعتادة نفسها مستخدمين المنهج الدراسي السوري الحالي، ولديهم ساعتان أسبوعياً يقدم فيها مدرس شيئاً من الإرشاد النفسي. يتكرر هذا النمط من ”الدعم النفسي“ في عدة أماكن. حدثني أحد الإداريين في مدرسة أخرى أسست في البلدة نفسها فيما بعد أن معالجةً نفسيةً فرنسيةً بصحبة مترجم يزوران المدرسة مرةً أسبوعياً، فيما يوجد في المدرسة ما يقرب من 800 طالب (مما يعني استحالة إقامة علاقة صحية طويلة الأمد). تحدثت مع سيدة من المنظمة المؤسسة للمدرسة  تصادف وجودها في المدرسة  أثناء زيارتي، وأخبرتني أنهم يودون تزويد الأطفال بمزيد من الدعم وأنشطة التعلّم الإبداعية، ولكنهم يفتقرون إلى الخبرة في هذا المجال وإلى القدرة على تدريب المدرسين على القيام بغير ما مارسوه في سياق التعليم التقليدي.

عندما أتحدث مع خبراء في الدعم النفسي فإنهم قد يختلفون في الأساليب التي ينبغي اتباعها، ولكنهم يتفقون على أن الأكثر أهميةً في أي تدخل هو علاقة الثقة التي تنشأ بين المعالج والناجي على المدى الطويل. ولكن في ظل الاحتياجات الضخمة وقلة العاملين والموارد يصبح من غير الوارد الوصول إلى علاقة بالعمق الكافي لبناء الثقة واستعادة التوازن. ولكن ذلك ليس مدعاةً للإحباط على أي حال، فقد أودع الله فينا قدرةً طبيعية على استعادة التوازن إذا توفرت الظروف المناسبة دون الحاجة إلى مساعدة مختصة في معظم الأحيان.أحد الأساليب المثمرة هو تأسيس بيئة آمنة للتعلم تتيح للأطفال التعبير عن أنفسهم في جو من الثقة والتعاون والاحترام. قد يتساءل البعض عن وجود أي محاذير من قيام أشخاص غير مختصين (كالأهل والمعلمين) بمحاولة التعامل مع الجوانب النفسية، والحقيقة أنه معظم ما سيقوم به هؤلاء هو الإنصات للأطفال ثم الإنصات ثم الإنصات، أي أن يوصلوا للأطفال أنهم أهل للثقة كي يشاركوا معهم ما يودون التعبير عنه حين يشاؤون. المهم ألا يطلبوا من الأطفال بشكل حثيث استرجاع تفاصيل مؤلمة عما مروا به. وقعت مؤخراً على كتيب مختصر بالعربية يفيد من يتعامل مع الأطفال في ظل هذه الظروف هو التعامل مع الأطفال وقت الأزمات من تأليف مأمون مبيض.

رافقت في يومي الثالث مجموعة من الناشطين الأمريكيين من أصول سورية في رحلة إلى مخيمين صغيرين نسبيًا داخل الأراضي السورية على مقربة من الحدود. كان في كل منهما عدة آلاف من النازحين يعيشون في الخيام. فيما كان الإخوة الذين رافقتهم يوزعون المعونات ويوثقون حال المخيم، كنت أبدأ محادثات مع الناس لأعرف المزيد عن الظروف التي مروا بها وأطفالهم. كنت أحيي من ألقاه من الوالدين برفقة أولاده فيما يقومون ببعض شأنهم بجوار خيمتهم، ثم أسألهم عن أحوالهم. كان الناس بطبيعتهم كرماء وطيبين وراغبين بالحديث، وسرعان ما كانوا يدعونني لتناول شيء من الشاي أو القهوة من القليل مما استطاعوا جلبه معهم، ومن ثم يبدؤون رواية حكاياتهم. كنت خلال ذلك أعطي الأطفال آلة التصوير خاصتي وأشرح لهم بسرعة كيفية التقاط الصور وأطلب منهم التقاط ما يحبون من الصور فيما أتكلم مع والديهم. فعلت ذلك لسببين: الأول إيماني بأن الأطفال (والمتعلمين عمومًا) يحصلون على قدر أكبر من التمكين عندما ينشؤون ويبنون شيئاً ما. استمتع هؤلاء الأطفال بالوقوف أمام زوار المخيم ليصوروهم، ولكنهم لم يلتقطوا صورًا قط. أما السبب الثاني فأني لم أستسغ شخصياً تصويرهم كما لو كنت سائحًا. معظم الصور التالية من تصوير الأطفال أنفسهم.

كانت محطتنا الأولى مخيم تل الكرامة، وقابلت فيه أماً قائمةً بجوار خيمتها على تحضير الغداء لأطفالها. حييتها وسرعان ما كانت تقص علي حكايتها فيما ابنتها ذات السنوات الست تلتقط الصور بعد شرح سريع مني. كان عمر المخيم أيام قليلة، وأتى الناس إليه من قرىً عدة في ريف حماة بعد بدء المعارك هناك وبعد أن أصبحت بيوتهم أهدافاً لصواريخ النظام  وطيرانه الحربي. تحدثت مع الأم لنصف ساعة حكت فيها كيف كانوا جسديًا أكثر راحةً في بيتهم، ولكنها لم تكن لتحتمل المزيد من ليالي الترقب ساهرةً وأطفالها تحت ناظريها وهي تسمع أصوات القذائف تقترب منها وتدك البيوت من حولها.

توجهت بعد ذلك إلى حيث كانت سيارتنا لأجد العديد من الفتيان متجمعين هناك. طلبوا مني أن أصورهم، ولكني عرضت عليهم بدلاً من ذلك أن يلتقطوا صورهم بأنفسهم. أراني أحدهم مجموعته من فوارغ الطلقات من أحجام مختلفة، وسرعان ما أخبروني أن الجميع لديهم مجموعات مشابهة [5]، وأخذوا يذكرون أسماء الأسلحة التي استخدمت لإطلاق تلك الذخيرة.

كنا نتحدث أثناء ذلك عن أمور مختلفة تتعلق بالمخيم، وانضمت إلينا حينئذ مجموعة من الشبان أعمارهم بين السادسة عشرة والسابعة عشرة، وكان من الأشياء التي استفسرت عنها غياب متطوعين من النازحين أنفسهم ليساعدوا في إعداد المخيم الجديد والقيام باحتياجاته. أجاب أحدهم بأنهم تطوعوا بادئ الأمر، ولكن سرعان ما عرضت إحدى المؤسسات الإغاثية المال على البعض لينجزوا بعض الإنشاءات في المخيم، وهنا بدأ الناس بالتساؤل — والكلام ما زال للشاب نفسه — عن الفائدة من التطوع فيما آخرون يحصلون على مال هم في أشد الحاجة إليه مقابل القيام بالعمل نفسه.

أحد الإشكالات الهامة في سياق العمل مع النازحين هو النظر إلى الأشخاص في ظل هذه الأزمة كضحايا مساكين بدل النظرإليهم كناجين ذوي همة وعزيمة. سمعت قصص عديدة عن ذلك في مختلف الأماكن التي يتجمع فيها اللاجئون والنازحون: تأتي الهيئات الإغاثية أو المتطوعون بقليل من الخبرة في التعامل مع الناس في هذه الظروف، ويتعاملون مع الحالة على أنهم الفرسان المخلّصون القادمون لإنقاذ الضحايا المساكين. يغيب عن الوضع أي تشجيع للاجئين ليكونوا أعضاء فاعلين في مجتمعاتهم الطارئة، وتعرض الهيئات الإغاثية والمتطوعون القيام بكل ما يلزم – بما فيها أبسط المهام كتوزيع الطعام أو تنظيف المكان. بمرور الوقت تقل فعالية اللاجئين وتغيب عنهم روح المبادرة وتتدهور بالتالي ثقتهم بأنفسهم وبالآخرين من حولهم ويزدادون تذمرًا في انتظار من يخدمهم، وتنتقل فيما بعد عدوى هذه الروح السلبية للأسف إلى الأطفال أنفسهم. هذه الممارسات من قبل العاملين مع اللاجئين لها العديد من الآثار غير المقصودة ولكنها قد تكون مدمرةً على المدى الطويل (هل هناك داع أن نتحدث عن الكيفية التي تُدمَّر بها كرامة الأطفال عندما تؤخذ صورهم مع علب الحليب التي تُوزَّع عليهم؟ :?) الإشكال الآخر هو الإصرار على استخدام الأطر التقليدية الجاهزة في التعامل مع الاحتياجات القائمة. فمثلًا، بدل إيجاد آلية تطوعية تتوزع فيها الجهود لإنجاز الأعمال المتعلقة في المخيم فإن الأعمال كلها مأجورة: من الحراسة حتى تنظيف دورات المياه. وبدل توزيع المعونات بالعدل فإنها توزع بالتساوي رغم اختلاف مستوى الحاجة بين النازحين. أحد الأمثلة الشهيرة والتي كانت مصدرًا للتوتر الدائم حيث كنت هي أن بعض العائلات تنال ما يفيض عن حاجتها من الخبز تحت غطاء المساواة، فتلجأ إلى تجفيفه خارج الخيام تحت أنظار الجميع، مما يثير حفيظة الكثيرين – سواء من النازحين أو حتى من سكان المنطقة الأصليين الأفضل حالًا نسبيًا – لأن الخبز سلعة غالية على الدوام. المثال الثالث هو أنه لا تعلّم أو تعليم دون مدرسة (وسبورة ومقاعد وكتب مدرسية ومدرسين نظاميين…) على مبدأ ”يا جامع أنت مسكّر وأنا مستريح“. قد تكون الأساليب التقليدية هي الأكثر سهولة والأقل عرضةً لسهام الانتقاد، ولكنها بالتأكيد ليست الأكثر فاعليةً في هذه الظروف، ورغم أنه قد لا توجد حلول بديلة جاهزة، إلا أنه لا أفضل من الوضع الحالي للتجريب وتعلّم أساليب جديدة.

المحطة التالية في رحلتنا كانت مخيم قاح. وكما فعلت في المخيم الأول، بدأت التجول بين الخيام إلى أن قابلت مصطفى (12 سنة) وأخته مريم (8 سنوات) ذات الابتسامة المشرقة. ألقيت السلام وعرفت عن نفسي وسألتهما عن اسميهما، وسرعان ما سمعني والدهما ليدعوني إلى خيمتهم. فيما كان أبو مصطفى يحضر الشاي كنت أري مصطفى وأخته كيفية التقاط الصور، وسرعان ما انضم إلينا المزيد من الأخوات وبنات الخالة ليبدؤوا التقاط الصور لبعضهم حول المكان. مع شيء من الاستكشاف  بدأ الأطفال التقاط فيديو بدل الصور الثابتة، وببعض المساعدة قرروا تنظيم أنفسهم لأداء بعض الأغاني.

بعد ساعة من الحديث واحتساء الشاي حان وقت العودة إلى قواعدنا في تركية إذ تغلق البوابة الحدودية الساعة الخامسة مساءً. أضمرت في نفسي أن أعود إلى هذا المخيم، ربما لأنني أتيح لي فيه التواصل والتفاعل بشكل أكبر مع الأطفال هناك. سألت أبا مصطفى إن كان يعرف وسيلة لقضاء بضعة أيام في المخيم فدلني على المسؤول عن المصارف المالية هناك، فعرّفت بنفسي على أني معلم وأود القيام ببعض الأنشطة مع أطفال المخيم، فرحّب بي مباشرةً دون مزيد من الأسئلة ووعدني بأن يتدبر لي مكاناً لأبيت فيه عندما أقدم المخيم ثانيةً (ومصدراً لشحن معداتي[6]).

مشاهدات

كان في كلا المخيمين العديد من المعلمين وحملة الشهادات الجامعية. سأغض الطرف عن مخيم تل الكرامة لأنه كان حديث الإنشاء آنذاك، أما في قاح فالناس كانوا قد أمضوا في ذاك المخيم عدة أشهر، أي أن احتياجاتهم الأساسية مستقرة نسبياً، ولكن كان هناك بالكاد أي شكل من أشكال التعليم (كان هناك استثناء وحيد أتحدث عنه فيما بعد). كانت هناك مشكلتان وفقاً لما قاله الأهالي:

  • لم يكن لدى المدرسين (أو أي شخص مؤهل للتدريس) دافع ليتطوع للتدريس دون مقابل 😐 والمؤسف أكثر أنهم لم يكونوا يدرسون أطفالهم الذين من أصلابهم رغم فراغهم. قال أحد الآباء الذين قابلتهم فيما بعد (وهو محام في الأصل) إنه يفضل أن يشغل نفسه بشيء يعود على عائلته بمردود مادي للقيام باحتياجاتها. كان ذلك مفهوماً إلى حد ما، ولكن باستثناء فرص محدودة للقيام بأعمال على أساس يومي (كمساعدة السكان المحليين في القرى المجاورة في حصاد الزيتون) فإن جلّ ما كان يقوم به البالغون هو الجلوس في خيامهم للتدخين وشرب الشاي والحديث (وكثير من الغيبة والنميمة).
  • لم يكن هناك مكان كبير كفايةً ليتسع للأطفال. كانت كل عائلة (الوالدان مع 5-6 أطفال في العديد من الحالات) تعيش في خيمة مساحتها تقارب 16 م2. كانت هناك خيمة أكبر مخصصة كمسجد، ولكنها بالكاد تتسع لثمانين طفلًا (إن كان الحديث عن تعليم تقليدي) في حين كان في المخيم من الأطفال أكثر من ذلك بكثير.

رغم ذلك، وشبيهاً بحال المعلمين الذين قابلتهم في الريحانية، فقد كان الآباء مدركين لحاجة أطفالهم لمن يقضي الوقت معهم للتعلّم والقيام بشيء من الأنشطة (ولمن يستمع لهم).

كان هناك افتقاد شديد للثقة بين الناس. عادة ما اُتِّهم أي شخص يشرف على إدارة وتوزيع المعونات بالاختلاس وقلة الأمانة تلقائياً دون أي دليل بالضرورة (مهما كان موقعه في سلسلة الإدارة والتوزيع). كان هناك شيء من الحقيقة في بعض اتهاماتهم، ولكنه لم يكن ظاهرةً بالشكل الذي يتحدث عنه النازحون، ولم يكن أي منه موثقاً على أي حال، وكانت هذه الاتهامات هي الطاغية على معظم الحوارات التي حضرتها في المخيمات. مردّ هذا الأمر بتحليلي هو الفراغ الذي الذي يعيشه الناس، فهم معزولون أولًا عن تحديات العمل الإغاثي (لأن المغيثين لا يشجعونهم على امتلاك زمام المبادرة) ولا يملكون بالتالي سوى إساءة الظن عند حصول أي تقصير في تلبية احتياجاتهم، كما أن جلوسهم دون عمل أو نشاط يترك لهم فرصة إمضاء وقت طويل في القيل والقال.

أبدأ الحديث في التدوينة القادمة عما فعلته حال عودتي إلى مخيم قاح لقضاء وقت أطول فيه.


[1] كان هناك في أيار/مايو 2013 ما يزيد على مليون ونصف لاجئ مسجل في دول الجوار (لبنان والأردن وتركية والعراق ومصر) بحسب بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (المصدر)، وهناك ما يقدر بأكثر من أربعة ملايين ونصف من النازحين داخل سورية نفسها (المصدر). العودة إلى التدوينة

[2] أكثر من ثلث السكان في سورية أعمارهم دون خمسة عشر عامًا (المصدر). العودة إلى التدوينة

[3] وفي حالات أخرى حولت المدارس إلى ثكنات ومراكز اعتقال (تقرير الجزيرة، المصدر). العودة إلى التدوينة

[4] بحلول تموز/يوليو 2013 كان هناك أكثر من 6900 طفلًا شهيدًا جميلًا في سورية. (المصدر). العودة إلى التدوينة

[5] في مخيم آخر، أرتني فتاة عمرها أربع سنوات مجموعةً مشابهةً من الفوارغ. العودة إلى التدوينة

[6] هناك تفصيل صغير أغفلت ذكره قبلًا، وهو أن هذه المخيمات كانت تفتقد الكهرباء والتدفئة. كان المصدر الوحيد للطاقة مولدة تشغّل ليلًا  لملء خزانات المياه وإنارة دورات المياه وخيمة التخزين.العودة إلى التدوينة

13 رأي حول “في مهمة للتعلّم في زمن الثورة (الحلقة 1)

  1. how can i be in touch with you in order to help?

  2. جازاكم الله كل خير ووفقكم بما تقومون به لخيرالأطفال فهم الذين سيبنون سوريا الحرة بإذن الله

  3. جميل ومفيد ومأجور ان شاء الله

  4. عمل رائع كان الله في عون أطفال سورية وهيأ لهم من يساندهم ويقف إلى جانبهم

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه:
search previous next tag category expand menu location phone mail time cart zoom edit close