﷽
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمّي، محمد معلّم الناس الخير، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا ختام تقريري عن رحلتي الأولى إلى مخيمات النازحين في ريف إدلب في الشمال السوري المحرّر في شهر كانون الثاني/يناير 2013. كتبت في الحلقة الأولى من هذه السلسلة من التدوينات عن مشاهداتي الأولية من رحلة سريعة إلى عدة مخيمات، وفي الثانية عن بداية تجربتي مع الأطفال في مخيم قاح بعد عودتي إليه. أما في الثالثة فتحدثت عن كتابة القصص كوسيلة لتعلم وممارسة القراءة والكتابة، وفي الرابعة عن بناء الثقة والاحترام في بيئة التعلّم.
لنضف شيئًا من الألوان
انضمت إلينا مؤخرًا رغد، فتاة من كفرنبل فقدت ساقها في غارة جوية. دعتها صديقاتها وساعدنها في المجيء إلى المسجد. كان على وجهها مسحة من حزن ونادرًا ما تحدثت معي، ولكن بدا أنها استمتعت بالنشاط على أي حال إذ تابعت القدوم في الأيام التالية.

زودت الأطفال بأقلام التلوين للمرة الأولى، فأعطيتها لمسؤولي النشاط منهم وأخبرتهم أن عليهم أن يجدوا طريقةً لتوزيع العدد المحدود من الأقلام الذي معهم. بعد شيء من النقاش والأخذ والرد بين الأطفال وُضِع نظام للتوزيع والتبادل بين المجموعات المختلفة. كنا نفقد كميات محدودةً من المواد كل يوم، مما سبب شيئًا من الإحباط للمسؤولين عن التوزيع، وخاصةً الأولاد منهم. فكنت أخبرهم أنه لا بأس بذلك طالما أنهم يبذلون أفضل ما بوسعهم لإدارة ما لديهم، وقد كانوا.
قد يظن البعض أن الأطفال سيحملون ابتسامات عريضة على وجوههم طوال الوقت عندما يكونون في بيئة تعلّم مثالية، إلا أن ذلك بعيد كل البعد عن الحقيقة. فكما يقول أصدقائي في استديو العبث فإن علينا تبنّي ثلاث كلمات هي الإخفاق والإحباط والخوف في أي بيئة يتعلّم فيها الأطفال بالبناء والتجريب.[1] رغم أن هذه الكلمات تبدو سلبيةً بادئ الأمر، إلا أنها ما يدفعنا لتجاوز منطقة راحتنا وحدود ما نعرفه لاستكشاف أشياء لم نخبرها من قبل وبناء تصورات جديدة. يتحدث الباحث سيمور بابرت عن مفهوم مشابه يدعوه المرح الجاد أو الصعب Hard Fun، عندما لا يمانع الأطفال (أو المتعلمون عمومًا) الانغماس في أنشطة صعبة طالما أنها ترتبط بشغفهم واهتماماتهم.
كانت أقلام للتلوين معي منذ اليوم الأول، ولكني أردت أن أرى ما الذي سينشؤه الأطفال دونها مستخدمين أقلام الرصاص فقط، ونسيت وجودها بمرور الوقت. في ذلك اليوم أحضرت رؤى ذات التسع سنوات بعض ألوان الشمع من خيمتها وأتاحتها للبنات كي يستخدمنها، وعندها تذكرت ما كان بحوزتي. لاحقًا في ذلك اليوم أهديت رؤى إحدى علب الألوان التي كانت معي، وكانت تلك المكافأة المادية الوحيدة التي أعطيتها أيًا من الأطفال طوال فترة إقامتي. وضّحت للبنات حينها أن رؤى كوفئت لكرمها في مشاركة مورد ثمين كان لديها، وأني كنت متأكدًا من أنها ستفعل الشيء نفسه بما حصلت عليه مني.
كان الأطفال مسرورين بالأدوات الجديدة، وبدأ بعضهم يستخدمها لدعم مواضيع قديمة كانوا يرسمون عنها، فيما أتاحت للبعض الآخر فرصة استكشاف مواضيع جديدة.
صادف وجودي في المخيم حدوث نقاش عن مكافأة الأطفال الذين يتمون حفظ شيء من القرآن. الحديث عن المكافآت، أوالدوافع بشكل عام، حديث طويل ذو شجون، ولكني أستطيع القول باختصار أننا كثيرًا ما نعاقب أطفالنا عندما نكافئهم، سواءً بهدية مادية أو شهادة أو حتى ثناء لفظي،[2] إذ نخرّب دوافعهم الذاتية ونلجؤهم إلى التعلق بدوافع خارجية لا تدوم، وبزوال هذه المحفزات الخارجية لن يكون بمقدور الأطفال استعادة دوافعهم الداخلية الخاصة. وخلافًا للاعتقاد السائد فقد وجد باحثون أن الحوافز المادية لا تصلح إلا لتحسين الأداء في الأعمال الميكانيكية التي لا تحتاج أي جهد ذهني، أما في الأعمال التي تتضمن أدنى جهد ذهني أو تفكير إبداعي فإن زيادة المكافآت أدت إلى أداء أقل جودة! عندما أعمل مع الأطفال فإني أبتعد قدر الإمكان عن تقديم محفز خارجي للحصول على اهتمام الأطفال وتفاعلهم (حتى لو كان لفظياً)، وأحوز اهتمامهم من خلال شغلهم بأمور هم مهتمون بها أصلاً ودفعهم لاستكشاف المزيد عنها. عندما أسأل الأطفال سؤالًا وتأتيني إجابة ما أو يريني الأطفال ما يصنعون فإن ردي المعتاد يكون من قبيل ”ممم، هذا مثير للاهتمام، هلا أخبرتني المزيد عما فعلت؟“ أو ”أنا مهتم بمعرفة الكيفية التي توصلت بها إلى هذه الإجابة.“ بدلًا من أن أقول ”أحسنت!“ أو ”برافو!“ هذا يتفق طبعاً مع تركيزي على معرفة الطريقة التي يفكر بها الأطفال وتحسينها بدل التركيز على إجاباتهم أو الحصيلة النهائية لعملهم.

في بداية زيارتي للمخيم كانت أنشطتي مع الأطفال تجري بين العاشرة صباحًا والثانية ظهرًا، ولكن سرعان ما صار الأطفال يبقون معي حتى غروب الشمس، فكنت تجد الأطفال قبل الغروب متجمعين قرب فتحات النوافذ لالتقاط القليل النافذ من أشعة الشمس.

لم يكن من المعتاد رؤية أي أطفال في المخيم بعد غروب الشمس، فقد كان الظلام دامسًا ولم يكن لديهم ما يفعلونه حينئذ. أخبرت بعضهم ذاك المساء أنهم إن قدموا بعد صلاة العشاء فسنقوم بنشاط مسل: الرسم بالضوء. عندما اجتمعنا ليلًا كان معظمهم صبيانًا، وقضينا ساعةً تقريبًا ونحن نرسم بالضوء باستخدام مصابيح قداحات (ولاعات) رخيصة كان من الشائع وجودها مع الجميع في المخيم في ظل انعدام أي إنارة.
أريت في اليوم التالي لبقية الأطفال ما صنعنا في الليلة السابقة، فأتانا في المساء عدد أكبر من الأولاد والبنات رغم البرد القارس، فطلبت منهم أن يتجمعوا في فرق ثم يقفوا في طابور بانتظار دورهم. مع كل لقطة ولوحة يرسمها أحد الفرق كان يركض إلي الأطفال جميعهم ليروا الصورة. حاولت مرارًا أن ألفت انتباههم إلى تقنيات وأفكار معينة قد تعينهم، ولكنهم قلّما استمعوا إلي، فقد كانوا مأخوذين بما كانوا يشاهدونه ويضحكون ويقدّرون كل لوحة يرونها، ثم يفكرون كيف يشغبون على الفريق التالي 🙂 ، فلما رأيت تفاعلهم لم أجد بأسًا في قلة انتباههم إلي.
مع كل الضجة التي افتعلها الأطفال في ذلك الوقت غير المعتاد، خرجت إلينا بعض النسوة وقد انتابهن الفضول، وبعد أن شاهدن عن قرب ما كنا نفعل سألنني إن كان بإمكانهن المحاولة. رحبت بمشاركتهن على أن يقفن في الطابور مع الأطفال، ففعلن، وأحببن في المحصلة ما قمن به! دفعتني تلك الحادثة إلى التفكير بأنشطة يمكن للصغار والكبار القيام بها معاً والاستمتاع بها.
أذكر هنا حادثةً شهدتها في الليلة الأولى من الرسم بالضوء، فبينما كنا نقوم بنشاطنا خارج المسجد لمحني أحد حراس المخيم المسلحين فيما كان يهم بدخول المسجد بسلاحه، فبدا أنه استشعر حرجًا فأتاني سائلًا إن كان هناك من بأس بذلك. لم أكن أتوقع منه هذا السؤال ولكني قررت أن ألعب دور ”الجنتلمان“ وأخبرته أن من الأفضل ألا يدخل بسلاحه. كان في ذهني أن الأخ اللطيف سيترك سلاحه في خيمته عند مدخل المخيم، والتي لا تبعد أكثر من ثلاثين مترًا عنا ثم يعود، ولكنه أمعن النظر بدلًا من ذلك في الأطفال من حولي ثم أشار إلى أطولهم (والذي لم يزد عمره عن ثلاثة عشر عامًا) ودعاه ليعطيه سلاحه ويعتني به (لا شيء ذا بال، مجرد كلاشنكوف 😎 ). كان ذلك المعتاد في تلك البيئة. من وقت لآخر كنا نسمع أصوات إطلاق رصاص (تجريب سلاح قبل شراءه) أو انفجارات بعيدة.
رحبوا بأبي غازي
قضيت معظم أمسياتي في المخيم مع المدرسَين المتطوعين، وسيم وأبي عبد الرحمن، نناقش مواضيع مختلفة ذات صلة بالأطفال وأساليبنا في التدريس ومجتمع المخيم عموماً، وكان ينضم إلينا عادةً آخرون من شباب المخيم ليشاركونا الحديث. كان أبو غازي أحد هؤلاء، شاب مهذب وخلوق في أواخر العقد الثالث من العمر، وكان يعمل خياطًا قبل أن يترك بلدته إلى المخيم. أخبرني أبو غازي ذات مرة أنه يعرف بعض الأغاني والأناشيد اللطيفة التي تحبها ابنته الصغيرة، مقترحاً عليّ أن أن أعلمها للبنات اللواتي يحضرن أنشطتي. كنت أرى من كلامه اهتمامه بالصغار فعرضت عليه أن يقوم بذلك بنفسه. تردد أبو غازي بادئ الأمر وتعلل بأنه ليس معلماً وليس له سابق خبرة، ولكن بشيء من التشجيع قال إنه سيأتي في اليوم التالي ليجرب ذلك.

أتانا أبو غازي عصر اليوم التالي فيما كانت البنات يرسمن، فعرّف بنفسه وأخبر البنات بأنه يعرف بعض الأغاني التي قد تعجبهن، وأن بإمكانه تعليمها لهن إن أحببن. سرعان ما اجتمعت حوله العديد من الفتيات وبدأن الاستماع له وتعلم كلمات أغنية جديدة وترديدها معه.
بعد التدرب لبعض الوقت أعطى أبو غازي البنات استراحةً قصيرة، فانفضنن عنه سوى أختين لم أذكر مشاركتهما في الأيام السابقة بقيتا معه للتحدث إليه. اقتربت منهم لأسمع الحديث فوجدت دموعًا في عيون الصغيرتين بينما كانت كبراهما تحكي عن افتقادها لقريتها وجدّيها اللذين اضطرا للنزوح إلى مخيم آخر. كان أبو غازي يواسيهما ويحثهما على الصبر، مذكرًا إياهما بمن حولهما من الأقارب والأصدقاء ممن يهتمون بهما. بدأت البنات الأخريات بالتجمع والإنصات، ثم بدأت إحداهن كذلك بمواساتهما. كان ذلك مذهلًا، فقد كانوا يتحدثون لبعضهم للمرة الأولى، ولكنهم كانوا قادرين على إبداء قدر عالٍ من التعاطف والدعم، وهذا ما لم يكن معتادًا في المخيم. كنت مسرورًا برؤية كيف شجعت البيئة التي أُسست في المسجد تفاعلًا إيجابيًا بهذا المستوى، حتى بين المشاركين الجدد.

اجتمعت البنات بعد الاستراحة ليعاودن الغناء، ولكن ليؤدين أغانيهن الخاصة هذه المرة. كنت أصورهن فيما الأولاد يراقبون بغيرة، فطلبوا مني أن أسجل لهم أغنية كذلك. أخبرتهم أني سأفعل إن نظموا أنفسهم واستعدوا لذلك سريعًا قبل غروب الشمس. باشروا النداء على بعضهم في عجل واختاروا قائدًا لهم ثم نادوا لنا. كانوا مستعدين فعلًا!
وصلتني تعليقات وتحفظات عدة على أداء الأطفال للأغاني المتعلقة بالثورة لما فيها من غضب وانتقام، وأخالف بعض ذلك وأوافق على بعض. الأغاني التي يستمع إليها الأطفال عن الثورة هي مكون أساسي من ثقافتهم الحالية، وهي بشكل ما مصدر فخر لهم وصلة ربط لهم بواقعهم، ومن خلالها يحصلون على المبرر الأخلاقي لصبرهم على ما تعرضوا له ويعيشونه من صراع بين حق وباطل، وبإغفال هذا الجزء يبدو ما يتعرضون له صراعًا عبثيًا لا ناقة لهم فيه ولا جمل وليسوا فيه سوى ضحايا لا حول لهم ولا قوة. تحفظي على الأغاني التي يستمع لها الأطفال ويرددونها حاليًا ليس ما فيها من غضب أو حزن أو حماس، وإنما افتقارها إلى مكون أخلاقي بنّاء يوحي برسالة وهدف، وتركيزها على ممارسات وأخلاق الخصم بدل القيم الأخلاقية التي نتمتع أو ينبغي أن نتمتع بها. كما أننا غالبًا ما نعرّف أنفسنا في هذا الأغاني من خلال تعريفنا للعدو بدل أن يكون لدينا نظرتنا المستقلة لأنفسنا ابتداءً، أو أننا نكتفي بدور الضحية المغلوبة على أمرها التي تنتظر إحسان القاتل. قد يكون هذا مفهومًا إذا أخذنا بعين الاعتبار منشأ هذه الأغاني وكيف تم تأليفها ومن قام بذلك، ومقارنتها بما أنشد في السبعينات والثمانينات (مثلاً قصة شهيد من شعر جمال فوزي وإنشاد أبي مازن) – ويعكس ذلك أحد الفروق بين انتفاضة آنذاك وثورة اليوم والشرائح التي شاركت في كل منهما.
لنجرّب نشاطًا أخيرًا
فيما كنت أقضي وقتًا طيبًا مع الأطفال، كان شركائي في الفريق يصممون أنشطة يمكن إقامتها بالموارد القليلة المتاحة لدي. وصلني نشاط عن تصميم المدن في الليلة السابقة. كان يفترض بالأطفال أن يصمموا ويبنوا (أو يرسموا في حالتي) أبنيةً مختلفةً من الداخل والخارج خلال عدة مراحل للنشاط، ويناقشوا الاختلافات بينها وكيفية تنظيمها وربطها.

شرحت النشاط الجديد للبنات عندما قدمن في الصباح، وطلبت منهن التوزع في فرق في كل منها اثنتان، وأعطيتهن المواد. لم تتحمس البنات للنشاط الجديد كثيراً لأنهن كن يخططن للقيام بأشياء أخرى، ولكنهم تقبلن الأمر لأنهن كن سيرسمن على أي حال. ولكن العقبة الكبرى كانت أمرًا آخر: حتى ذلك اليوم كانت كل الأنشطة رخوة البنية، فكان الأطفال يأتون متى شاؤوا، فيتعلمون الخطوط العريضة للنشاط وأهدافه، ثم ينفذنونه كل بوتيرته الخاصة. سمحت هذه البنية للأطفال بالقيام بأنشطة متنوعة في الوقت نفسه (بين الرسم والكتابة والغناء حتى مجرد الجري في المسجد والمصارعة).
أما النشاط الجديد فلم يكن فيه هذا القدر من السماحية، وتطلّب نوعًا من البنية والتنظيم اللذين لم يتوفرا في المكان بعد. كان هناك الكثير من الضوضاء والإلهاء، وكانت البنات من أعمار متنوعة وعلى سويات مختلفة من المهارة، كما كان عدد المشارِكات كبيرًا. بدأت البنات الرسم متبعات الإرشادات التي قدمتها في المرحلة الأولى من النشاط، ولكننا لم نستطع الوصول إلى المرحلة التالية. لم يكن الوصول إلى مزيد من النظام مستحيلًا ولكنه كان بحاجة إلى إعداد وتحضير لم يكن ليتم في الوقت القليل الذي بقي لي في المخيم.


أخذنا استراحةً لصلاة الظهر، وعندما عاودنا النشاط بعد الصلاة كان من الواضح ألا فائدة من الاستمرار في النشاط الجديد، لذا قررت أن نعود لممارسة ما اعتدناه في الأيام السابقة. اتفقت بعض البنات خلال الاستراحة على إحضار إخوانهن (الرضع فعليًا) إلى المسجد، ولذا كان لدي ضيوف جدد من الحجم الصغير 🙂
من المهم بالنسبة لي وجود أطفال من فئات عمرية متنوعة في المكان، إذ أن أحد الوسائل الطبيعية للتعلم وجود أطفال من سويات مختلفة من الخبرة والمعرفة يتبادلون خبراتهم بشكل مباشر (كأن يسأل أحدهم الآخر مساعدته) أو غير مباشر (عندما يقلد طفل ما يفعله آخر لأنه يراه مثيرًا للاهتمام). رغم أني لم أكن مستعدًا للتعامل مع الأطفال دون الخمس سنوات، إلا أن قدومهم بصحبة إخوانهم بدا أمرًا طبيعيًا وإيجابيًا دون أن يشكل عبئًا علي، إذ كان الأخوة الأكبر هم من يتولون عادةً زمام الإشراف على أنشطة إخوانهم الأصغر.



كانت البنات يسألن عن أبي غازي لأنهن أردن أن يؤدين بعض الأغاني معه ثانيةً، ولكنه للأسف كان خارج المخيم لأداء بعض الأعمال. اجتمعت بأبي غازي مساءً كالمعتاد مع بقية الأصحاب في خيمة المدرس وسيم، وفجأةً سمعنا صياح هتاف البنات في الخارج: ”أبو غازي… أبو غازي…“ إذ علمن باجتماعنا فأتَيْن في مجموعة كبيرة يسألن غناء بعض الأغاني رغم الظلام الدامس (وامتعاض بعض الخيام المجاورة فيما بعد).
عند بدء مدارس جديدة للنازحين فعادةً ما يتم البحث عن مدرسين لقيادة العملية التعليمية، ولكن بما أنني أقدّر أنواعًا مختلفةً من التفاعل والتعامل في بيئة التعلّم مما ذكرته في هذه السلسلة من التدوينات، فإنني أبتعد عن البحث عن هؤلاء (أو على الأقل تخصيصهم بالعمل مع الأطفال). هناك مدرسون جيدون بالطبع، ولكن أيًا منهم ليس على استعداد مطلق للتعامل مع الظروف الحالية. يضاف إلى ذلك أن المدرسين لديهم ميل أكبر (بسبب إعدادهم المسبق) للتركيز على إكمال المنهاج وإجراء الاختبارات وإعطائها أولويةً أعلى من نواحي أكثر أهمية (بما فيها التعلم نفسه). كما أنهم يرون أنفسهم مركز العملية التعليمية/التربوية، فهم من يقرر بشكل مستقل الصحيح والخاطئ، والحسن والقبيح، وما ينبغي تعلمه وما ينبغي تركه، دون مجال لمشاركة فعلية من المتعلمين. أفضل عادةً اختيار من أرى فيهم اهتمامًا بالأطفال واهتمامًا بمجال ما يتقنونه، وسيكون من الأسهل والأكثر فاعليةً مساعدة هؤلاء ليكونوا معلمين ومشرفين أفضل للأطفال.
أحد أهدافي من القيام بأنشطتي التعليمية في المسجد كان إتاحة الفرصة للبالغين لمشاهدة ما يقوم به الصغار من نشاطات ونوعية العلاقات والتفاعلات القائمة بينهم. ساعد ذلك في تشجيع البعض ممن لم يتخيلوا أنفسهم قط كمعلمين على أن يشاركوا مهاراتهم وخبراتهم مع الأطفال ويكونوا لهم مرشدين، كما بدأ الأطفال يبحثون عنهم خارج وقت النشاط المعتاد ليتفاعلوا معهم. طموحي هو توسيع هذا النوع من العلاقات لتشمل عملًا أكبر من الأفراد – مشرفين ومتعلمين – الذين يتشاركون خبراتهم دون وجود إطار رسمي مصطنع: شخص يعرض معرفته وخبرته للمشاركة، ويأتيه المهتمون بمجاله، لا ليتعلموا منه فحسب، بل ليشاركوه كذلك خبراتهم والارتقاء بالجميع نحو آفاق لم يكونوا يتوقعونها. أدعو هذا النموذج شبكات تعلم، مستعيراً المصطلح الذي استخدمه إيفان إلتش في كتابه النفيس عن مجتمع بلا مدارس.[3] لن يكون بناء وتوسيع شبكات التعلم هذه بالأمر الهين، إذ تتطلب تغييرًا في العقلية التي تحكم كيف ومتى وأين نتعلم، والتي تخصص ذلك غالبًا بمؤسسات رسمية مركزية كالمدرسة. تحد آخر كان مثلًا أن البالغين الذين عملت معهم في شبكات التعلم التي عملت على بنائها كانوا يركزون على الأنشطة والمهارات التي اعتقدوا أنها أكثر مناسبةً للأطفال (كالرسم والغناء والكتابة)، فيما غاب عن بالهم أن بإمكانهم مشاركة مهاراتهم التي يحترفونها ويستمتعون بها مع الأطفال مع محاولة وضعها في سياق يناسبهم. توسيع شبكات التعلم أفقيًا بحيث تشمل أشخاص أكثر بمجالات متنوعة ضروري لجعل نموذج غير رسمي للتعلم يضمن للمتعلمين تعلم أشياء جديدة على الدوام من خلال الاطلاع المستمر على اهتمامات وتحديات جديدة. أحد الأشياء التي ساعدت في تأسيس شبكة تعلم في حالتي كان أن الأطفال بنوا أشياء ذات معنىً لهم ولمجتمعهم، والتي كانت في معظم الأحيان قصصهم ورسوماتهم عن الأحداث التي مروا بها. ففي كل ليلة بعد العمل مع الأطفال كنت أمضي الوقت مع الكبار (وليسوا بالضرورة آباء أولئك الأطفال) والذين كانوا يبدون اهتمامًا بمعرفة القصص التي رواها الأطفال وإدراكهم لما مروا به، مما شكل أرضيةً لنقاش أنشطة أخرى يمكن القيام بها.
وماذا بعد؟
إن أردت أن تفتتح مدرسةً (من النوع المعتاد من المدارس)، سواء في مخيم للنازحين أو خارجه، فليس عليك أن تقوم برحلة كالتي قصصت تفاصيلها عليك في هذه المدونة. كل ما عليك هو وضع مجموعة من الأطفال ومنهاج وسبورة سوداء وأحد البالغين في غرفة واحدة، وستكون غالبًا على ما يرام. ولكن إن أردت أن تعزز هؤلاء الأطفال وتمكّنهم كمتعلمين، فتلك مسألة أخرى.
عندما أتواصل مع الناشطين العاملين مع الأطفال في مخيمات اللاجئين، فإن العديد منهم يبدأ القول إن الأطفال في توق شديد إلى المدرسة. ”أتمازحنني؟“ هي ردة فعلي الأولية عند سماع ذلك. قضيت عمري جلّه في البلد نفسه الذي أتي منه هؤلاء الأطفال، وحصلت على تعليمي في مؤسسات تعتبر أفضل نسبيًا في النظام التعليمي نفسه، ولم أعرف صبيًا طبيعيًا واحدًا أحب الذهاب إلى المدرسة (ربما باستثناء أخي معاذ، ولكني لم أعتبره طبيعيًا آنذاك 🙂 ) قد يود الأطفال الذهاب إلى المدرسة، ولكن ليس لأنها المدرسة، وإنما لأنها غالبًا المكان الوحيد الذي يستطيعون فيه لقاء أقرانهم للقيام بنشاط ما (وأغض الطرف هنا عن الضغط الاجتماعي الذي يجعل من الذهاب إلى المدرسة شرطًا لازمًا وكافيًا للنجاح في الحياة). أفكار خاطئة كهذه هي ما يسود نقاشاتنا عن التعلّم والتعليم والمدرسة وتلبية احتياجات الأطفال.
في عالم الثابت الوحيد فيه هو التغير المستمر، فإن المدرسة متخلفة توًا عن إعداد الأطفال للمستقبل، أما بالنسبة للأطفال النازحين (والسوريين عمومًا) فإن التحدي أكثر صعوبةً، إذ يعيشون أصلًا حالةً من انعدام تام في الرؤية عما سيكون عليه مستقبلهم، فليس من المنطقي أن يتعلموا باستخدام الطرائق التقليدية في ظل الظروف غير التقليدية التي يمرون بها.

[1] Embracing the “f-words”: failure, frustration and fear. العودة إلى التدوينة
[2] والتعبير مستعار من كتاب لألفي كون عنوانه معاقبون بالجوائز: مشكلة النجوم الذهبية وخطط الحوافز والدرجات والثناء والرشى الأخرى Punished by Rewards: The Trouble with Gold Stars, Incentive Plans, A’S, Praise and Other Bribes. العودة إلى التدوينة
[3] انظر Deschooling Society من تأليف Ivan Illich. تحدث إلتش عن شبكات التعلم في الفصل السادس من الكتاب الذي يمكن الاطلاع عليه هنا. العودة إلى التدوينة
جزاكم الله كل خير ونفع بكم ..تعليق بسيط .بالإضافة إلى توق الأطفال للمدرسة من أجل أن يجتمعوا بأقرانهم فإن اشتياقهم وتوقهم للعودة إلى المدارس هو توق لحياة مهما كانت رتابتها فهي تحمل لهم الاستقرار وتنظيم الوقت وتوزيعه بين المنزل والمدرسة ..الأمر الذي يفتقدونه نوعاً ما في وضعهم الجديد الذي يعتبرونه مؤقت …مهما طال يبقى مؤقت ومحدَث سيزول بنظرهم بزوال الظروف التي أدّت إليه ..هو اشتياق لنموذج ظاهره الاستقرار مهما كانت بواطنه مختلفة ..ولنموذج نشؤوا عليه من توزيع الأدوار والأوقات مهما كانت سلبياته وإيجابياته..بالإضافة إلى شعوربالتّأخر والخوف لدى البعض منهم ممن يحملون وعياً أكبر من غيرهم على المستقبل وعلى الأحلام التي يريدون بناءها خصوصاً عندما يقيسون أنفسهم بالصفوف التي يُفترض أن يكونوا فيها من التعليم الرسمي …