﷽
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمّي، محمد معلّم الناس الخير، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشير أحيانًا إلى منهجية التعلم التي نتبعها في الميديا لاب في جامعة إم آي تي حيث أدرس وأعمل، وفيما يلي شيء عن هذه المنهجية.
منطلق منهجية التعلم في الميديا لاب هي عيشنا في عالم يتغير بتسارع متزايد أكثر من ذي قبل، فما نتعلمه اليوم سيكون غالباً منتهي الصلاحية بحلول الغد. ولذا فالمعرفة وحدها لم تعد كافيةً للنجاح، إذ صار النجاح يعتمد بشكل متزايد على قدرتنا على التفكير والتصرف بإبداع، ففيما نواجه باستمرار أوضاعًا جديدةً وغير متوقعة، علينا أن نكون قادرين على تخيل إمكانات جديدة، والتفكير بشكل منهجي، والتعاون لتصميم حلول جديدة. لا ينطبق ذلك على الأفراد فحسب، وإنما على الشركات والمجتمعات وحتى الأمم ككل. هذا ما يشير إليه أستاذي متشل رزنك بأننا ننتقل اليوم إلى عصر المجتمع الإبداعي، بعد أن مررنا بالمجتمع الصناعي فالقائم على المعلومات فالمعرفي.[١] [٢]
رغم أن المجموعات البحثية في الميديا لاب تربو على الخمسة والعشرين عددًا وتغطي طيفًا واسعًا من الاختصاصات والاهتمامات، بدءًا بتطوير تقنيات للأطفال لمساعدتهم على التعلم، ومرورًا بدراسة الإعلام الجماهيري وتطوير الأطراف الاصطناعية، ووصولًا إلى الإنسالات التي تتواصل اجتماعيًا وعاطفيًا مع الناس وأشياء أخرى لا أعرف كيف أترجمها ابتداءً (مثل Synthetic Neurobiology)، فإن هذه المجموعات تتبع في مواجهة التحديات التي تعالجها منهجيةً في التعلم تقوم على أربعة مبادئ:
- التعلّم من خلال الصنع: يتعلم الناس بشكل أفضل عندما ينخرطون بشكل فعال في تصميم وإبداع وصنع شيء ما. الإنشاء هو أساس التعلم الإبداعي، ولذلك فإننا عندما نستخدم كلمة مبدع أو إبداعي creative فإننا لا نستخدمها عادةً بالمعنى الغامض الشائع عند الناس، وإنما لنركز على create بمعنى ينشئ أو يبدع شيئاً ما (كفعل متعدٍ وليس لازم).
لهذا السبب تجد إضافةً إلى المساحة المخصصة لكل مجموعة والتي تحوي أدواتها الخاصة للبناء (رقميًا أو إلكترونيًا أو ميكانيكيًا)، أن هناك ورشةً كبيرةً مشتركةً تحوي معظم ما يمكن تخيله لبناء منتج ما، من أدوات الحدادة والنجارة والقطع واللحام والمسح والطباعة ثلاثية الأبعاد. هناك كذلك مادة بعنوان كيف تصنع (تقريبًا) كل شيء يسجل فيها العديد من طلاب الميديا لاب لتعلم آليات استخدام أدوات البناء المختلفة. والهدف من ذلك كله ألا ينهمك المرء في التنظير بعيدًا عن بناء أشياء ملموسة أو نماذج أولية لأفكاره.
- التعلّم ندًا لند: يزدهر التعلم كنشاط اجتماعي حيث يتشارك الناس الأفكار ويتفاعلون ويبنون على أعمال بعضهم البعض، فترى في الميديا لاب أن الناس لا ينظرون إلى بعضهم بتراتبية أستاذ-طالب، وإنما على أن فلانًا من الناس لديه خبرة في مجال ما أستطيع الاستفادة منها، أو أنه آت من خلفية مختلفة مما يعني أنه قد يستطيع إغناء الموضوع بأفكار لا تخطر ببالي. يمارس ذلك على مستويات عدة بين المرح والجد، فهناك مثلًا مهرجان التعلّم حيث يدعى جميع أعضاء المعهد (طلابًا وأساتذةً وموظفين) لمشاركة خبراتهم والتعلم من بعضهم في مهارات تتراوح بين صناعة اللَّبَن والحياكة وإشعال النار ومهارات عرض الأفكار إلى التعريف بأدوات برمجية حديثة.
مثال آخر كان موضوعه نقاشًا مستمرًا عن كيفية مشاركة أفكارنا عن التعلم ومنهجيتنا في ذلك مع الآخرين حول العالم ليمارسوها دون أن يضطروا إلى المجيء إلينا، فما كان من الباحثين المؤرّقين بهذا السؤال إلا الإعلان عن مادة دراسية لبحث هذا الأمر، فأي طريقة لحل معضلة ما أفضل من إحضار أربعين عقلًا ليشاركوك أفكارهم عن الموضوع لفصل دراسي كامل؟
- التعلّم اللَّعوب:[٣] يقتضي التعلم الاستكشاف والتجريب اللعوبَين أو العابثَين: تجريب أشياء جديدة، والعبث بالمواد، واختبار حدود الممكن، وركوب المخاطر، وتكرار ذلك المرة تلو المرة. ولذا ترى الناس في الميديا لاب طوال الوقت يجربون الأفكار و”يلعبون” بها، ويطرحون أسئلةً مثل: “ماذا لو أضفت كذا إلى التطبيق؟” أو “أجرّبتَ كيف يستجيب الناس لو اتبعت معهم هذا الأسلوب؟”
بما أن مجموعتي مهتمة بتقنيات التعلم عمومًا فإننا نناقش بين حين وآخر أفكارًا متعلقةً بالدورات المفتوحة واسعة النطاق على الوب (MOOCs)، وسرعان ما قررنا اختبار أفكارنا مستخدمين مادةً اعتاد أستاذي متشل رزنك تدريسها هي “تعلّم التعلّم الإبداعي” – رغم أن عدداً من المجربين سيكونون طلاباً فعليين يشاركون فيها ضمن خطتهم الدراسية للحصول على ساعات معتمدة (وكنتُ منهم). مما كنت ستلاحظه على الموقع هو تحذير بأن المادة هي تجربة كبيرة (سجّل حوالي ٣٠ ألف طالب)، وستكون هناك أعطال وأخطاء، وأننا لا نملك الإجابات لكل شيء. عُدّلت وطُوّرت العديد من الجوانب خلال الفصل الدراسي (وكانت التجربة مصممةً لذلك)، كما دعونا الطلاب أنفسهم للمساهمة بأفكارهم وتعديلاتهم.

- التعلّم العاطفي: عندما يعمل الناس على مشاريع يهتمون بها فإنهم يعملون لأوقات أطول وباجتهاد أكبر، ويثابرون في وجه التحديات، ويتعلمون أكثر أثناء ذلك. لذلك لا يوجد في الميديا لاب بحث موجه، فحتى مجموعة مانحي المعهد لا يُملون عادةً على الباحثين ما عليهم فعله أو بحثه، والباحثون كذلك لا يُملون على طلابهم ما عليهم استكشافه، وإنما يشجعونهم على استكشاف اهتماماتهم الخاصة والعمل عليها، وقد يقترحون عليهم مجالات محتملة إن لزم الأمر.

يمكن تطبيق هذه المبادئ في أي ظروف بغض النظر عن الأدوات المتوفرة، إلا أن توفر التقنية وتطوراتها يفتح آفاقًا أوسع لتطبيقها، وهذا ما يشير إليه جوي إيتو مدير الميديا لاب (والذي لم يكمل بدوره أي دراسة جامعية) عندما يتحدث مبادئ ما بعد الإنترنت في سياق كلامه عن التعلم في المعهد، إذ يرى أن الإنترنت فلسفة وليست مجرد تقنية، لما تفتحه من إمكانيات غير مسبوقة للعمل والتعاون والاستكشاف.
مبادئ ما بعد الإنترنت (باختصار):
- المرونة بدل القوة: لا تقاوم الإخفاق، وإنما تحلّ بالمرونة للتعلم من أخطائك وتجاوزها.
- الطلب عند الحاجة بدل التكديس: لا تضيع جهدك في التنبؤ بما تحتاجه مستقبلًا وتكديسه الآن، وإنما حصّل الموارد عند الحاجة إليها. يعني ذلك في سياق التعلم أن تسعى لتعلم ما تعرف أنك بحاجته للتعامل مع التحديات التي تواجهك الآن.
- المغامرة بدل السلامة: لا تستنزف جهودك في البقاء آمنًا، واختر مخاطراتك بذكاء.
- النُّظُم بدل الأشياء: لا تركز على المنتجات بمفردها وإنما على علاقتها بما حولها (الصورة الكبيرة).
- البوصلة بدل الخريطة: ركز على معرفة اتجاه سيرك بدل تعيين مسار محدد ونقطة محددة للوصول إليها.
- الممارسة بدل النظرية: لا تنتظر النظرية، ابن أولًا وستتطور النظرية لاحقاً.
- التمرد بدل الإذعان: الاكتشافات الكبيرة لا تحدث عندما تتبع الأوامر!
- الانبثاق بدل السلطة: لا تجعل المعايير القائمة والوضع الراهن تخنق إبداعاتك وإمكاناتك الكامنة. أنشئ معاييرك وأساليبك الخاصة.
- التعلّم بدل التعليم: التعليم هو ما يقدمه الآخرون لك، أما التعلم فما تقدمه لنفسك.
[١] انظر مثلًا: Resnick, M. (2007). Sowing the Seeds for a More Creative Society. Learning and Leading with Technology, December 2007. العودة إلى التدوينة
[٢] رغم تقديري لأسلوب التعلم هذا، والذي ألهمني واستفدت منه الكثير على مدى سنوات، إلا أني أدرك أنه في نهاية المطاف نموذج مادي بحت بحاجة إلى تحرير كوامن منطلقاته، والتعلم منه لا استنساخه. العودة إلى التدوينة
[٣] التعلّم اللّعوب أو العابث playful learning. كان من الصعب استخدام كلمة “لعوب” أو “عابث” لما قد تحملانه من مضمون سلبي، ولكن لم أجد غيرهما للتعبير عن تجربة التعلم هذه. العودة إلى التدوينة
ماذا تعني بأنه ” أنه في نهاية المطاف نموذج مادي بحت بحاجة إلى تحرير كوامن منطلقاته” ؟
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته الأخت مريم
يقصد أن الكلام هذا نظري بحت يحتاج لمن يتبنى الأفكار و يطبقاها بارض الواقع و أنه موضوع ثري و مليئ بالأفكار
ليس هذا ما عنيته. بشكل عام جل الكلام الدائر اليوم عن إصلاح التعليم يستلهم أفكار جون ديوي حول الموضوع وينطلق منها (كما في كتابه “الخبرة والتعليم” مثلا)، والذي يدور في دائرة التعايش مع الأمر الواقع أي ما هو كائن (ومن هنا التركيز على الجوانب العملية في التعليم) ولكن لا تصور لديه عما “ينبغي أن يكون” والذي يحتاج الحديث عنه نظرة أخلاقية متجاوزة للواقع المادي. وأشير إلى ديوي هنا باعتباره من آباء البراغماتية حيث الجيد أو الخير هو ما يعود بالنفع عند التطبيق العملي وليس لأنه كذلك بنفسه، ولك أن تتوقع أن منهجيته في التعليم لن تخالف منطلقاته الأخلاقية. ولذا مثلا فإننا نتحدث عن التعلم الإبداعي “كضرورة في عالم اليوم متسارع التغيرات” أي كردة فعل دون أن يكون لدينا للتعاطي الأخلاقي والحكم على طبيعة التغير وأثره على الناس.
أما قولك أن الأمر نظري فالحقيقة على عكس ذلك تماما، إذ يصعب أن تجد مكانا أكاديميا أكثر “عملية” من الميديالاب.