معاقَبون بالمكافآت: كيف (لا) نحفز أبناءنا تربويًا وتعليميًا؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

دعاني إخوة كرام في المملكة المتحدة لمشاركة تذكرة قصيرة فاخترت لها موضوع الدوافع والتحفيز بالمكافآت. في الموضوع تفصيل أود الكتابة عنه منذ زمن، ولكن لعل في هذه التذكرة بعض الفائدة وأسأل الله أن يهيئ لي التوسع في الأمر قريبًا. إليكم نصها:


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، محمد معلم الناس الخير، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمًا.

في عملي مع الآباء والمعلمين نتطرق في حديثنا إلى مختلف جوانب عملية التعلم والتعليم، من كيفية تكون المعرفة إلى دور العمل على المشاريع والتعاون مع الأقران في عملية التعلم إلى غيرها، ولكن لعل أشد ما يستفز النقاش والجدل والتفكير وحتى الاعتراض هو حديثنا عن الحوافز أو الدوافع: كيف نحث أطفالنا على تعلم أمر أو التخلي عن عادة ما، أو بالأصح: ما الذي يدفعنا كبشر عمومًا للقيام بأمر أو ترك آخر؟ والسؤال حُق له أن يتسبب بكل ما يتسبب به من الجدل لأنه يكشف بشكل مباشر عن رؤانا التي نستبطنها عن الإنسان ووجوده في هذا العالم، ولعل هذا ما يشجعني على مشاركته في تذكرة كهذه.

خذوا مثلًا النظرية الأشهر والأوسع تطبيقًا في المجال التربوي في بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا: نظرية العصا والجزرة في الحوافز: إن كنت تريد المزيد من سلوك معين فكافئه، وإن كنت تريد التقليل من سلوك آخر فعاقبه. نظرية لطيفة وبسيطة: بدل أن ترى الإنسان الكائن في طفلك بتعقيده وتركيبه وتطلعاته وخبراته وتحفظاته وأحلامه، تجاهل هذا كله، وعامله كحيوان أليف ما، غزال أو حصان أو أرنب (كيلا نستخدم أمثلةً أخرى): دلِّ له جزرةً (أو شهادةً أو مكافأةً أو تقديرًا أو ثناءً) وانتظر منه التحرك في اتجاه ما، أو لو كنت من الجيل الأقدم قليلًا فلوح له بعصا العقاب والحرمان مهددًا متوعدًا (بل استخدمها إن لزم الأمر) لتحركه في اتجاه معاكس.

عنوان تذكرتنا اليوم استعرته من كتاب بالعنوان نفسه: معاقَبون بالمكافآت Punished by Rewards والذي يسوق فيه مؤلفه خلاصة العشرات بل المئات من الأبحاث العلمية والأكاديمية، والتي يشير واحدها تلو الآخر إلى أن هذا الأسلوب في التحفيز يأتي بعكس ما نأمله منه تمامًا: تعريض ابنك للمكافآت يؤدي إلى تدمير اهتمامه الشخصي ودافعه الذاتي للقيام بالأمر. لنأخذ مثالًا كلاسيكيًا من هذه الدراسات: أحضر مجموعتين من طلاب الروضة وأعطهم أوراقًا وألوانًا ليرسموا، واعرض على أطفال المجموعة الأولى شهادات مقابل القيام بذلك واترك أفراد المجموعة الثانية لاهتماماتهم. قد يبدي أفراد المجموعة الأولى اهتمامًا أكبر في البداية. ولكنك إن عدت بعد فترة لتطلب من الأطفال رسم مزيد من الرسومات ولكن دون أن تُعرض عليهم أي شهادات ستجد أن الأطفال الذين تلقوا شهادات في المرة الأولى سيبدون اهتمامًا أقل ويمضون وقتًا أقل في الرسم مقارنةً بأقرانهم الذي لم يتلقوا أي شيء في المرة الأولى، وكأنهم صاروا ينتظرون ثمنًا للقيام بما اعتادوا الاستمتاع به من قبل.

ولكني صراحةً في هذا الأمر تحديدًا، أمر الحوافز والدوافع، لا تعنيني كثيرًا ما تقوله الأبحاث (وإن كانت تدعمه) وقد لا تعنيكم كذلك. أمر مهم كهذا لا يحتمل انتظار علماء القرن العشرين والحادي والعشرين ليحلوه لنا. كما أن أحدكم قد يقول ربما تكون مثل الدحيح تقول لي ”خدلك بصة في المصادر“ وهي لا تعني شيئًا. ولذا لنفكر بشكل أعمق في السؤال الأصلي: كيف أحفز ابني أو ابنتي للقيام بأمر ما؟ هل تلاحظ مثلًا أنه يستبطن رغبةً في السيطرة والتحكم، ورب العزة قال لنبيه فيما فيه خير الدنيا والآخرة: ”لست عليهم بمصيطر“؟

هل تلاحظ أنه يغرس في الطفل الطاعة والخضوع للبشر، قبل الطاعة والخضوع لله؟ مرةً اعترضت إحدى الأمهات على كلامي قائلةً: ”ولكن الله عز وجل استخدم الأسلوب نفسه مبشرًا إيانا بالجنة إن استجبنا ومتوعدًا بالنار إن أعرضنا. أولسنا نفعل الأمر نفسه؟“ ولا أجد أبلغ من هذا الطرح في بيان فداحة الأمر: عندما تعرض على ابنك المكافآت والثناءات والشهادات ليفعل أمرًا ما أو يترك آخر، فما تفعله هو أنك تغذي فيه أن يطلب رضاك. أنت تنصب نفسك إلهًا وهميًا بجنةٍ ونارٍ وهميتين، وتدعو أطفالك وطلابك لطلب رضاك وتجنب سخطك مقابل مكافآت تافهة مثيرة للشفقة. ولا أفرق في ذلك بين مكافأة مادية أو معنوية، بين هدية أو مديح: ادخل أي مدرسة أو فرقة كشافة وسترى الأطفال يقولون بعد كل أمر يفعلونه: ”أستاذ انظر ماذا فعلت، هل أعجبك؟“ في انتظار أن تمن عليهم برضاك أو مديحك أو قبولك، وكأن أعمالهم لا قيمة لها دون رضا شخصك الكريم. قبل أن تعرض على ابنك أي مكافآة أو تتوجه له بالمديح، انظر في نفسك واسألها هل أنتظر من طفلي أو تلميذي أن يطلب رضاي؟ هل أحوله إلى مرتزق يبتغي من يدفع الأجر الأعلى؟ اليوم يصلي لأني أدفع له مكافأته بالليرة وغدًا يذهب إلى الكنيسة لأن الدفع صار باليورو؟

صراحةً، لا أقول أننا نعاقب أطفالنا بالمكافآت، بل أننا نهلكهم بها.

تأمل معي هذا الحديث. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه:

إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأتَ القُرآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ وسَّعَ اللهُ عليه، وأَعْطاهُ مِن أصْنافِ المالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: ما تَرَكْتُ مِن سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فيها إلَّا أنْفَقْتُ فيها لَكَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقالَ: هو جَوادٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ.

هذا في الشهيد والعالم والمنفق، فما بالك بغيرهم؟ من يأتي يقول درست واجتهدت ليقال دكتور ومهندس ورافع راسنا؟ أو للمكافأة الفلانية والشهادة العلانية؟

في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة كذلك: قالَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ.

علام نربي أبناءنا إذن؟

اربطهم منذ البداية بتقوى الله وحبه، واغرس فيهم مراقبته، وادع لهم بالهداية والرعاية والحفظ في كل حين إن كنت حقًا تهتم بهم، سواء كانوا طلابك أو أطفالك. تريد منهم أن يصبحوا مسلمين صالحين؟ هيئ لهم بيئة تحفها التقوى والتناصح والتعاهد والتذاكر. تريد منهم أن يصبحوا علماء أو خبراء في مجال ما؟ هيئ لهم بيئة يحتكون فيها بأناس يمارسون فيها تلك الخبرات ويتبادلونها ويعيشونها بحيث يشعرون بأهميتها ولذة خوض غمارها. ثم اترك لهم بعد ذلك كله أن يختاروا فهذا ما ابتلاهم الله به، ولكن لا تحاول شراء ذممهم وإيمانهم واهتماماتهم، فلن تفسد عليهم إلا دنياهم وآخرتهم.

قد يسأل سائل هل بذل النبي عليه الصلاة والسلام المكافآت أو ما يشبهها؟ لننظر لمن.

عندما وزع النبي عليه الصلاة والسلام الغنائم في أعقاب غزوة حنين، ذكر ابن إسحاق أن قائلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه: يا رسول الله: أعطيتَ عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائةً مائةً ، وتركت جعيل بن سراقة الضمري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه .

في الحديث المؤثر الذي أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخُدْري: لمَّا أعْطى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أعْطى من تلك العَطايا في قُرَيشٍ وقَبائِلِ العَرَبِ، ولم يكُنْ في الأنْصارِ منها شَيءٌ، وَجَدَ هذا الحَيُّ من الأنْصارِ في أنْفُسِهم؛ حتى كَثُرَت فيهم القالةُ؛ حتى قال قائِلُهم: لَقِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَومَه، فدَخَلَ عليه سعدُ بنُ عُبادةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا الحَيَّ قد وَجَدوا عليكَ في أنْفُسِهم؛ لما صَنَعتَ في هذا الفَيءِ الَّذي أَصَبتَ؛ قَسَمتَ في قَومِك، وأعْطَيتَ عَطايا عِظامًا في قَبائِلِ العَرَبِ، ولم يَكُ في هذا الحَيِّ من الأنْصارِ شَيءٌ، قال: فأين أنتَ من ذلك يا سَعدُ؟ قال: يا رسولَ اللهِ، ما أنا إلَّا امرُؤٌ من قَومي، وما أنا؟! قال: فاجْمَعْ لي قَومَك في هذه الحَظيرةِ، قال: فخَرَجَ سَعدٌ، فجَمَعَ الأنْصارَ في تلك الحَظيرةِ، قال: فجاءَ رِجالٌ من المُهاجِرينَ، فتَرَكَهم فدَخَلوا، وجاءَ آخَرون، فرَدَّهم، فلمَّا اجتَمَعوا أتاهُ سَعدٌ، فقال: قد اجتَمَعَ لكَ هذا الحَيُّ من الأنْصارِ، قال: فأَتاهُم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه بالَّذي هو له أهْلٌ، ثُمَّ قال: يا مَعشَرَ الأنْصارِ، ما قالَةٌ بَلَغَتْني عنكم، وجِدَةٌ وَجَدتُموها في أنْفُسِكم؟! أَلَمْ آتِكم ضُلَّالًا فهَداكمُ اللهُ؟ وعالةً فأغْناكمُ اللهُ؟ وأعداءً فألَّفَ اللهُ بين قُلوبِكم؟ قالوا: بَلِ اللهُ ورسولُه أمَنُّ وأفضَلُ، قال: ألَا تُجيبونَني، يا مَعشَرَ الأنْصارِ؟ قالوا: وبماذا نُجيبُكَ يا رسولَ اللهِ؟ وللهِ ولرسولِه المَنُّ والفَضْلُ، قال: أمَا واللهِ لو شِئتُم لَقُلتُم، فلَصَدَقتُم وصُدِّقتُم، أَتَيتَنا مُكذَّبًا فصَدَّقْناك، ومَخذولًا فنَصَرناك، وطَريدًا فآوَيْناك، وعائِلًا فآسَيْناك، أوَجَدتُم في أنْفُسِكم يا مَعشَرَ الأنْصارِ، في لُعاعةٍ من الدُّنيا، تَألَّفتُ بها قَومًا لِيُسلِموا، ووكلتكم إلى إسْلامِكم؟ أفَلا تَرضَوْنَ يا مَعشَرَ الأنْصارِ، أنْ يَذهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعيرِ، وتَرجِعون برسولِ اللهِ في رِحالِكم؟ فوالَّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيَدِه، لولا الهِجْرةُ لَكُنتُ امرَأً من الأنْصارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وسَلَكَتِ الأنْصارُ شِعْبًا، لَسَلَكتُ شِعْبَ الأنْصارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنْصارَ، وأبْناءَ الأنْصارِ، وأبْناءَ أبْناءِ الأنْصارِ! قال: فبَكى القَومُ، حتى أخْضَلوا لِحاهُم، وقالوا: رَضِينا برسولِ اللهِ قَسْمًا وحَظًّا، ثُمَّ انصَرَفَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَفَرَّقوا.

فتأمل أي جيل من أبنائك تربي: جيل من الصالحين الثبت عند اللقاء أم جيلًا من المؤلفة قلوبهم؟

التصنيفات التعلّمالوسوم ، ، ، ،

3 رأي حول “معاقَبون بالمكافآت: كيف (لا) نحفز أبناءنا تربويًا وتعليميًا؟

  1. إذا تكرمت كيف يمكن أن نتفاعل مع الطفل عندما يكون فرحاً بإنجاز أنجزه؟

    1. هلا بينت مقصدك يا بشرى؟ لم أفهم صلة التفاعل بالدافع.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه:
search previous next tag category expand menu location phone mail time cart zoom edit close