﷽
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اختتم مؤخرًا مساق تعلُّم التعلُّم الإبداعي الذي تقدمه مجموعة روضة أطفال مدى الحياة Lifelong Kindergarten في جامعة إم آي تي، والذي تميز هذا العام بتوفر العديد من مواد المساق باللغة العربية إلى جانب لغات أخرى. كنت ألتقي أسبوعيًا مع بعض متابعي المساق لمناقشة المواضيع التي يتعرض لها، وبما أننا نتحدث عن التعلم الإبداعي كان محتمًا أن نتطرق إلى طبيعة التعلم نفسه، أو سؤال كيفية تكوُّن المعرفة.
لنتحدث عن رؤيتين شائعين إلى الأمر. يذهب أصحاب الرؤية الأولى إلى أن المتعلم يتلقى أو يتلقف المعارف والعلوم كما تُقدَّم له، فهي تُصب في ذهن المتعلم (أو المتلقي) صبًا، وتكون وظيفة المعلم أو المربي حينئذٍ هي ملء ذلك الوعاء الفارغ الذي يحمله المتعلم فوق كتفيه بكل ما يستطيع. وبالتالي فإن أي محاولة لإصلاح التعليم تركز على المعلم الذي هو العنصر الفاعل في العملية، بينما يبقى المتعلم عنصرًا خاملًا مسؤوليته الوحيدة هي التأكد من كون ”رأسه مفتوحًا“ لتُدخل المعلومات إليه وخاليًا من الثقوب والشقوق كيلا تتسرب منه.
أما في الرؤية الثانية فإن المعرفة تُصنع أو تُبنى بناءً في الذهن، فالمتعلم هو العنصر الفاعل في عملية التعلم والمسؤول عنها، والتعلم عملية يحدث فيها تفاعل وتفاوض بين التجارب والمعارف التي يتعرض لها المتعلم والتجارب التي مرَّ بها والمعارف التي كوّنها سابقًا، فيربط ويحلل ويركب ويربط للخروج ببنية ذهنية متناسقة. مما يعني أن المتعلمين المختلفين سيخرجون من الموقف أو التجربة نفسها بنتائج متباينة تبعًا لخلفياتهم وتجاربهم السابقة.
عندما أذكر هاتين الرؤيتين حيال التعلم وتكون المعرفة، يسارع السامعون عادةً إلى التعليق بأن الرؤية الأولى بالية أو تقليدية وعفا عليها الزمن، ويبدو لهم أن من البديهي إنكارها وتجاوزها. صحيح أن أصل هذه الرؤية قديم (بل كلاهما في حقيقة الأمر كذلك)، ولكنها بعيدة عن أن تكون قد تجاوزها الزمن، سواء في الثقافة الشعبية أو حتى العمل الأكاديمي. فلا يكاد مثلًا لقاء من لقاءاتي مع المربين والأهالي (وفيهم من يمارسون ”التعليم الإبداعي“) يمر دون أن يتحدث العديد منهم عن براعتهم في ”إيصال المعلومة“ ووسائلهم في ذلك — حتى أني في أحد الأماكن التي عملت فيها مع مجموعة من المشرفين التربويين كنت أطالب من يستخدم عبارة ”إيصال المعلومة“ أثناء وصفه لما يقوم به بوضع ليرة في وعاء كلما فعل ذلك، وأؤكد لكم أن الوعاء كان دومًا مليئًا بالنقود.
لأشارك بعض الأمثلة الإضافية عن تغلغل هذه الرؤية في ثقافتنا عن التعلم والأشكال التي تتبدى بها. مع نهاية القرن التاسع عشر، قام عدد من الفنانين الفرنسيين بإنتاج مجموعة من الرسومات تحت عنوان في عام 2000 En L’An 2000 تعكس تصوراتهم عما سيكون عليه الحال بعد قرن من الزمان. كانت اللوحة أدناه هي ما تفتق عنه ذهن الفنان لوصف التطور الذي سيحل بالمدرسة، والتي تعكس بوضوح الرؤية الأولى: المتعلمون طلاب خاملون يتلقفون ما يقدم لهم، والتعليم ما هو إلا عملية تُقدَّم فيها المعلومات ويمكن بالتالي مكننتها وزيادة كفاءتها.

هل اختلفت رؤيتنا في هذا القرن؟ ما تزال إحدى الصور الشائعة للمقارنة بين التعليم الجيد والسيئ (أو العام والخاص) هي مقدار المعلومات التي تُصب في تلك الأواني المرصوصة أمام المعلم.

وحتى في الجامعات الكبرى مثل إم آي تي، عادةً ما يشبَّه التعلم فيها بالشرب من خرطوم إطفاء الحريق في إشارة إلى التدفق الهائل للمعلومات الذي على الطالب تلقيه.

أما في فيلم ماتركس Matrix (1999) فيمكنك أن تتعلم كل شيء، من الفنون القتالية إلى قيادة الطائرات، في ثوانٍ معدودة عبر تنزيل البرنامج المناسب إلى عقلك أثناء استلقائك على كرسي مريح.
وعندما سُئل نيكولاس نيغروبونتي Nicholas Negroponte (مؤسس الميديالاب في جامعة إم آي تي MIT Media Lab وصاحب العديد من التنبؤات الشهيرة في عالم التقنية) في ختام محاضرته في TED عن تنبئه القادم أجاب:
أحد الأمور التي تتعلق بتعلم القراءة هو أن جلَّ استهلاكنا للمعلومات يجري عبر أعيننا، وذلك قد يكون وسيلةً تتصف إلى حد بالغ بعدم الكفاءة. فتنبُّئي هو أننا سوف نبتلع المعلومات. سوف تبتلع حبةً وتعرف الإنكليزية. سوف تبتلع حبةً وتعرف شكسبير. وسيكون ذلك عبر مجرى الدم، فبمجرد أن تصبح في مجرى دمك، فالأمر بشكل مبسط هي أنها تمشي فيه وتصل الدماغ، وعندما تدرك أنها في الدماغ في أجزائه المختلفة فإنها تودع [المعرفة] في الأماكن المناسبة. الأمر إذن عملية هضم.

وبما أن نيكولاس ضرب مثلًا بتعلم شكسبير بحبة، أضرب أنا مثلًا مقابلًا. لنفترض أني وشخصًا يهوديًا قرأنا معًا مسرحية تاجر البندقية لشكسبير: قصة المرابي اليهودي الجشع، شايلوك، الذي قَبِل أن يقرض أنطونيو دون فائدة بشرط أن يقتطع من جسده رطلًا من اللحم إن تأخر في رد القرض، وهي المسرحية التي يراها كثيرون اليوم عنصريةً ومعاديةً لليهود. هل سيكون انطباعي (والمعرفة المتكونة عندي) عن المسرحية وشكسبير وسائر أعماله مماثلًا لانطباع ذلك اليهودي، أم أن المعرفة المتشكلة ستتأثر باختلاف ثقافاتنا؟ — إلا إن كانت رؤيتنا للمعرفة قاصرةً على مجرد حفظ الحروف والكلمات والمعلومات (أو استهلاكها كما ذكر نيغروبونتي).
وسواء كان المرء ممن يستخدم عبارة ”إيصال المعلومة“ أو يتحمس لحبة التعلم أو يرى أنه يستطيع أن يعلم أحدًا أمرًا محددًا في وقت محدد أو كان يرى أن السبيل لتحسين التعلم هو تقديم قدر أكبر من التدريس، فهو ينطلق من الرؤية الأولى في تكوين المعرفة: ”أنا أستطيع أن أفرض على الناس ما يعرفونه ويفكرون به،“ وهي رؤية تقوم على خطاب مضمونه التحكم بالآخر والهيمنة عليه ورفض حريته وقدرته على الاختيار (أو حتى المقاومة ورفض التعلم كما كتبت مريم في مدونتها الجميلة).
في الطرف الآخر يقف من يرى التعلم عمليةً نشطةً من بناء المعرفة (وليس تحصيلها) محكومةً بسياق محدد تجري فيه وليس في معزل عنه. أي أن المتعلم ليس صفحةً بيضاء يكتب عليها المعلم ما يشاء، وأن المعرفة تتشكل اعتمادًا على خلفية المتعلم وتجاربه السابقة ورؤيته للعالم وتفاعلاته مع محيطه.
أحد من يرتبط اسمهم بهذه الرؤية للتعلم هو عالم النفس السويسري جان بياجيه Jean Piaget. يرى بياجيه أن التكيف adaptation أهم مبادئ النمو الذهني (أو التعلم بعبارة أبسط)، وهو الاستخدام المستمر للبيئة للتعلم والتأقلم مع التغيرات فيها. يتكون التكيف من عمليتين متكاملتين: الاستيعاب (أو التمثل) assimilation والتواؤم accommodation. الاستيعاب هو التعرض لمعارف وتجارب جديدة واستيعابها ضمن جملة المفاهيم المكتسبة مسبقًا عن العالم، أما التواؤم فهو مراجعة وتعديل المفاهيم المكتسبة مسبقًا عندما تكون قاصرةً عن الإحاطة بالتجارب الجديدة في العالم لتتناسب معها. لنوضح الأمر ببضع أمثلة.
عندما يصادف الرضيع الذي تعلم مص ثدي أمه تجارب جديدة في بيئته كدمية أو خشخاشة فإنه سيعاملها وفق ما عرفه مسبقًا ويضعها في فمه ليمصها كما اعتاد من أمه (الاستيعاب)، ولكنه سرعان ما سيتعلم أن هذه الأغراض لا تسد له رمقًا ويعدل بناه الذهنية وفق ذلك (التواؤم). مثال آخر من حياة الصغار هو الأسماء التي يطلقونها على الكائنات الحية. كان أول ما عرفت ابنة أخي من الكائنات طيرًا فدعته ”كوكو“، ثم صارت تطلق الاسم نفسه على الكائنات الجديدة التي تقابلها، ذبابةً كانت أم هرةً أو كلبًا (وهذا هو الاستيعاب، أي استيعاب التجارب الجديدة في البنية المعرفية الموجودة مسبقًا)، ثم صارت بمرور الوقت وملاحظتها للأسماء التي يستخدمها من حولها تعرف أن لهذه الكائنات أسماءً مختلفةً (وهذا هو التواؤم، أي تعديل البنية المعرفية استجابةً للمعطيات الجديدة).

كيف يتبدى هذا الأمر في السياق المدرسي؟ لنفترض معلمًا يلقي درسًا على طلابه في الصف السادس الابتدائي عن قوانين نيوتن في الحركة ويوصل لهم بشكل واضح القانون الأول أو ما يدعى قانون القصور الذاتي أو العطالة: الجسم الساكن يبقى ساكنًا والجسم المتحرك يبقى متحركًا بالسرعة والاتجاه نفسهما ما لم تؤثر عليه محصلة قوى. العبارة واضحة للمتلقي، والمفترض وفق الرؤية الأولى أن تنطبع المعلومة في ذهنه كما تلقاها، ولكن ما الذي يجري في ذهنه حقيقةً حسب ما تقترحه الرؤية الثانية؟ سيعتمد ذلك على خبراته وتجاربه ورؤاه، ولكن ما الذي يعنيه ذلك؟
لنبدأ بالعبارة نفسها: بقاء الجسم الساكن ساكنًا أمر يفهمه طفل في ذلك السن بحكم تجاربه المعاشة، ولكن ما معنى بقائه متحركًا؟ إنه يعرف أنه إذا ركل كرةً أو دحرج أسطوانةً فإنها ستتوقف وحدها في نهاية المطاف مهما كانت القوة التي طبقها على الجسم. فالعبارة نفسها لا ترتبط بتجاربه المعاشة رغم أن كلماتها مفهومة، ولذا فإنه سينتقل إلى السياق الأوسع الذي يتعرض فيه لهذه العبارة ومثيلاتها: ما الغرض من هذه العبارة؟ هل علي فهمها أم أن المطلوب حفظها فحسب؟ ما الذي يدعوني لفهمها؟ هل يتملكني فضول حيالها أو تشكل لي أهميةً لأنها تفيدني في أمر يعنيني بشكل شخصي أو يعني من أهتم لشأنهم؟ لو كان الأمر كذلك، فهل من المناسب أن أسأل عنها لأحاول فهمها أم أن ذلك سيؤثر عليَّ سلبًا لسبب أو لآخر كأن أظهر بمظهر البليد أمام المعلم أو المتعالم أمام الأقران؟ لو لم يمكن من المهم فهمها، فهل علي حفظها حقًا؟ هل توقعاتي من نفسي (أو توقعات محيطي) هي التفوق في المادة أم مجرد تجاوز الاختبار بحيث لا أحتاج لحفظ كل شيء أصلًا؟ وإن كان علي حفظها فحتى متى؟
إن وجد المتعلم لسبب ما (لا صلة له بالمدرسة والنظام التعليمي غالبًا) أن عليه محاولة فهم الأمر فإنه سيتابع الاستقصاء والبحث ليؤسس صلةً بين خبراته ومعارفه المسبقة وهذه التجربة الجديدة التي تفرض نفسها (أو يفرضها المعلم) عليه. أما إن وجد أن عليه حفظها فإنها سيخصص لها بنيةً معرفيةً خاصةً تضم تلك المعارف التي غايتها تجاوز الاختبار ثم التخلص منها سريعًا، وذلك دون أن يكون لمحتواها المعرفي المباشر أي صلة بتجاربه وخبراته في العالم والبنى المعرفية الأخرى المتشكلة لديه: مجرد كلمات لا تحمل بالضرورة أي معنىً مفهوم. هل هناك المزيد مما يمكن تناوله أثناء تفكرنا في السياق؟ بالطبع! ماذا لو لم يكن يُتوقع من الطفل التفوق أو حتى النجاح — نتيجة الرسائل التي تصله ممن حوله بخصوص قدراته أو أهمية المدرسة نفسها؟ ماذا لو كان الطفل كرديًا يُفرض عليه التعلم باللغة العربية بوصفها ممثلًا لقومية متعالية (وليس لدين ينتمي إليه)؟ ماذا لو كانت استجابة الطفل لضغوط الأهل والمعلمين من شاكلة ”سأثبت لكم أني لن أتعلم مهما فعلتم؟“ والمثالان الأخيران مما ندعوه مقاومة المتعلم للتعلم، والذي لا مكان له في الرؤية الأولى التي ترى المتعلم متلقيًا خاملًا فحسب. لهذا الذي ذكرت عادةً ما أقول أن الأطفال يتعلمون دومًا أمرًا ما في المدرسة، ولكنه غالبًا ليس المعارف التي نريد منهم تعلمها، وإنما كيفية التعامل مع محاولات الإكراه والضبط والتحكم التي نفرضها عليهم (انظر مثلًا القسم الذي يتحدث عن الاستراتيجية في هذه التدوينة عن كتاب كيف يخفق الأطفال).
ملخص القول أن التعلم عملية تُبنى فيها المعرفة بناءً. أتى سيمور بابرت Seymour Papert فيما بعد ليضيف أن عملية البناء تغدو أكثر نجاحًا عندما يرافق البناءَ الذهني انهماكٌ في بناء فعلي على أرض الواقع يمكن للمتعلم عرض مخرجاته ومشاركتها ونقاشها واختبارها وتأملها والإعجاب بها، سواء كانت تلك المخرجات بيتًا من المكعبات أو لوحةً أو قصيدةً أو نظريةً، وهي الفكرة التي دعاها سيمور التعلم بالبناء Constructionism.

إن كان عبء التعلم وتكوين المعرفة والمعنى يقع على عاتق المتعلم، فما هو الدور الذي بقي للمعلم إذن؟ تأمل الحكمة التي نعرفها جميعًا: ”علمني الصيد بدل أن تعطيني سمكةً كل يوم.“ إن كانت الأفكار والمعلومات أسماكًا، فحري بالمعلم أن يعلم طلابه كيف يصيدونها أو يكتسبونها بأنفسهم بدل أن يحاول إطعامهم معلومةً (أو عشرًا) كل يوم. ومن هنا يمكننا أن نرى أن وظيفة المعلم أو العملية التعليمية هي مساعدة المتعلمين على التعلم، أي مساعدتهم على إمساك أسماكهم الخاصة — أي المعارف والتجارب والاهتمامات التي يريدون هم أنفسهم استكشافها وخوض غمارها. والمساعدة في هذا السياق تغطي كافة الجوانب: الفكرية والنفسية والأخلاقية والعاطفية والمادية؛ وبالتالي تغدو وظيفة المعلم أولًا محاولة فهم طلابه وخلفياتهم واهتماماتهم وأفكارهم بشكل مستمر، لا ليحكم سيطرته عليهم ويتلاعب بأذهانهم، وإنما ليستطيع تهيئة الجو الذي يشجعهم على الاستكشاف وطرح أسئلتهم الخاصة وتتبع اهتماماتهم وما يثير فضولهم وليساعدهم على تجاوز العوائق التي تعترضهم وليستخدم خبرته في إرشادهم إلى ما يعينهم في رحلة التعلم التي يخوضونها.
هاتان الرؤيتان المتباينتان إلى التعلم تعكسان رؤيتين متباينتين إلى الإنسان نفسه: أهو موضع للتحكم والسيطرة؟ أم كيان له تطلعاته وأشواقه ورؤاه وليس غرضًا ماديًا نعجنه بأيدينا لنشكله كما نشاء؟ ومن هذا التباين تفترق كافة عناصر تجربة التعلم والتعليم لتغدو شديدة الاختلاف بين هاتين الرؤيتين: بدءًا بغاية عملية التعلم نفسها وماهية المعرفة التي نسعى إليها وكيفية الوصول إليها، ومرورًا بتصميم بيئة التعلم بعناصرها المادية والمعنوية والعلاقات التي تسودها وتلك التي تربطها بالمجتمع الذي تحيا فيه، وليس انتهاءً بكيفية تقييم هذه التجربة والحديث عنها.
كان الأستاذ المسيري رحمه الله يحدث طالباته عن الخطاب الإمبريالي: ”خطاب التحكم في الآخر والهيمنة عليه وتوظيف معرفتنا به لتحقيق مزيد من التحكم فيه،“ ويتحدث في المقابل عن خطاب المحبين: ”حيث يؤدي تزايد معرفة الآخر إلى مزيد من التعاطف والتواصل معه.“ فهل نعامل أبناءنا الذين يضعون بين أيدينا أنفسهم وأفكارهم وأحلامهم الغضة معاملة المتحكم المسيطر أم معاملة المحب؟ أتصور أن ممارساتنا التعليمية في نهاية المطاف ما هي إلا صدى إجابة هذا السؤال.
أنا عندي سؤال خاص بالعمل مع الأطفال وليس الكبار ولكن أفكاري غير مرتبة .
في النموذج الثاني بينما نحاول نفهم عالم الطفل وكيف يفكر ونتعاطف معه ونعيد النظر في أفكارنا من خلال أسئلته وأفكاره، أين تقع مرجعية المربي وما يؤمن به من أفكار في تلك العلاقة وشعور المربي بالمسئولية أن تتشكل أفكارهم بطريقة صحيحة (في الأمور التي يكون فيها الصواب والخطأ واضح ولا مساحة رمادية في المنتصف).
مثال مثلًا: عند الحديث عن الأديان تجد من يقول أننا نعرض على الأطفال الحديث عن جميع الأديان ونترك له حرية اختيار معتقده . بينما في المقابل شعوري بالمسئولية وما اؤمن أنه الصواب سيجعلني في البدايه أتحدث عن الإسلام أنه الدين الحق وكيف أنه نسخ الأديان الأخرى وماهي المشاكل في الأديان الأخرى وهكذا وسيحركني شعوري بالمسئولية أن ينشأ الطفل بعقيدة ا سليمة.
مثال أخر وهو أن نضع جميع المعارف بشكل متساوي أمام الطفل ثم يختار هو مايشاء. ولكن مرجعيتي كمربية أرى أن هناك معارف تتساوي في أهميتها وهناك علوم لا تنفع وهناك علوم لها أفضلية وأهمية. فلن أساوي بين تعلم القران وتعلم الرقص مثلًا.
في الحديث مثلا عن النبي صلى الله عليه سلم” مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر”. أوحسب فهمي هنا مساحة من الفرض بما يؤمن به المربي أنه صواب تمثلت في الضرب. لذا خصصت سؤالي عن الأطفال لإنك إذا ضربت الطفل على الصلاة وهو ابن عشر لن تضربه عليها وهو ابن الثالثة عشر. ستكون قد بينت له الصواب والخطأ ونشأته على الصلاة ولن تملك وقتها إلا أن تأمره بالصلاة وتصطبر عليها.
لا أجد تعارض في أن تكون لي مرجعيتي وما اؤمن به وبين تفهم الأطفال والغوص في عالمهم. ولكن ربما السؤال عن المساحة التي يتحرك فيها المربي بمرجعيته وما يومن به دون أن يسقط في مساحة أن كل شيء سائل وكل طفل يكون مرجعيته بنفسه دون الاستناد على أرضية ثابتة بما هو صواب وخطأ أو السقوط في الفكرة الأولى التي ذكرتها أن نتحول لفارضين على الأطفال كل شيء دون تفهم .
تساؤل في محله يا مريم، وإن كان السقوط في السيولة ليس بحتمي أو لازم. فكري مثلا بلا إكراه في الدين ولست عليهم بمسيطر، والتي لا تعني بشكل من الأشكال اتخاذ موقف حيادي أو لا مبال من اختيارات الناس أو نسبي فيما يتعلق بالحق والباطل.
الموقف الذي تمليه الرؤية الثانية هو محاولة فهم المتعلم لمساعدته بما نستطيع وليس إلغاء ذات المربي أو القيام بما يعتقد خطأه. تفكري بمن جاء سائلًا النبي عليه الصلاة والسلام الإذن في الزنا. كان الفتى يعرف الحكم الأصلي (أو المعلومة إن شئت) ولم يميع له النبي الحكم، ولكنه ساعده على إنشاء روابط لم تكن حاضرة بباله حينئذٍ (أتحبه لأمك؟) ثم دعا له (اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه) — ودعاء المربي للمتعلم في أي مجال تلك لفتةٌ لا تبغي الغفلة عنها. وما كانت هذه الإجابة ومثيلاتها (مثل استفت قبلك) لتوجه إلى فاسق متبلد الإحساس.
أنتقل إلى أمثلتك. المجرم الذي يقول أنه سيعرض على الأطفال أديان العالم ليختاروا منها “احترامًا لحريتهم” يتجاهل أن الأطفال (والكبار كذلك) لا يتعلمون المعارف مجردة عن سياقاتها. ما سيتعلمه الأطفال ليس البحث عن الدين الحق (لأن هذا ليس ما يقوم به مربيهم الفاصل) وإنما اتخاذ موقف لا مبال من الدين يرون الأديان فيه سواء. إننا ندرك (والأطفال يدركون) أن أحد الأطفال لو اختار أن يلقي بنفسه في نار الدنيا لما اتخذ مربيه مثل هذا الموقف اللامبالي مهما كان مذهبه في التربية، فلو كان المربي مؤمنًا حقًا بأن نار الآخرة أشد عذابًا وأبقى لأعطى الأمر حقه وما عبث مثل هذا العبث.
أما المثال الثاني فينطلق من مقدمة إشكالية (يشاركه فيها المثال الأول) وهي عرض “جميع” المعارف. من ذا الذي يحيط منا بجميع المعارف (أو الأديان) حتى يعرضها ابتداءً؟ إن كان هذا غير ممكن فما سيقوم به المربي فعليًا هو عرض ما يتصل باهتماماته هو شخصيًا. ثانيةً، ليس المطلوب من المربي أن يلعب دور مقدم برامج “ما يطلبه الجمهور” ليعطي الأطفال ما يريدونه أو يشتهونه.
التصور العام الذي يحضرني على عجالة كالتالي:
(1) ينبغي التفريق بين المطلق والنسبي. أن ينشأ الطفل على غير الإسلام فهذا خسران ما بعده خسران، ولكن عدم تعلم الرياضيات مثلًا ليس كذلك ولا يقاربه! وأقول هذا كي ننظم أولوياتنا ونفهم ما هي “الأساسيات” التي تستحق منا الذعر والاستنفار إن فقدت. والمعرفة التي بلغتنا عن الوحي معرفة يقينية لا شك فيها، أما المعرفة العلمية فهي أفضل ما توصلنا إليه في ظل المعطيات المتاحة، ولكنها لن تصل بحال من الأحوال درجة اليقين المطلق، وهذا ما يتيح لنا مرونةً في التعاطي معها واستكشافات الأطفال وأخطائهم فيها.
(2) الإسلام ليس صعبًا تعلمه فقد كان الرجل يقيم عند رسول الله أيامًا معدودة ثم يعود إلى قومه ليبلغهم. وليس كل تكاليفه يخاطب بها الناس كلهم، ففي الحديث أن رسول الله قال: “يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر” فقال أعرابي: ما تقول؟ فقال: “ليس لك ولا لأصحابك.” ما الذي على الأطفال تعلمه وممارسته في سنيهم الأولى؟ على الجانب العملي المباشر قد لا يكون هناك سوى الصلاة أولًا والصيام لاحقًا. من حسن حظنا أن الأطفال أبناء بيئتهم وفطرةٌ فيهم متابعة أبويهم ومن حولهم، فالبيت الذي تقام فيه الصلاة وتحتل فيه العبادات موقعًا محترمًا ويوقر فيه دين الله يغلب فيه أن ينشأ الأطفال فيه على مثل ذلك دون توترات بالغة. تصبح خياراتنا أقل بكثير عندما يأتيك أهل لا يصلون أو لا يقرأ القرآن في دارهم إلا نادرًا ثم يقولون: ابني لا يصلي أو لا يحفظ القرآن. وقولي مثل هذا على المعاني الإسلامية كتقوى الله والتوكل على الله وتعظيم حرمات الله، وهي ليست مجرد كلمات تلقن، وإنما معانٍ تعاش على مستوى الفرد والجماعة، وهي التي إن رسخت ستحث الطفل على الارتقاء في دين الله وتجاوز الحد الأدنى من الطاعات.
(3) أنتقل الآن من المطلق إلى النسبي: مجال المعارف التي إن لم يفلح الطفل بها في أسوأ الأحوال فلن تخرب الدنيا 🙂 من حسن حظنا مرةً أخرى أن الأطفال فضوليون بطبعهم ويتعلمون بسرعة كل ما تتعلق حياتهم به. كم طفلًا تعرفين “أُرغم” على تعلم الكلام أو ركوب الدراجة؟ إن كنت ترين تعلم مجال ما (من اختصاصك) مهمًا حقًا فيقع على عاتقك كمربية أمران:
(أ) أن تحضري هذا المجال إلى عالم الطفل: أن تجدي الروابط المناسبة بين معارفه واهتماماته مما يدفعه إلى استكشافه. ولهذا كان سيمور يتحدث مثلًا عن أرض الرياضيات Mathland، أي خلق مجال يتعلم فيه الأطفال “تحدث لغة” الرياضيات بالشكل نفسه الذي يتعلم فيه الأطفال بشكل طبيعي تحدث الفرنسية في بلدها فرنسا (وليس في مساق للغة الفرنسية منفصل عن بيئتهم).
(ب) أن تستطيعي التفريق بين لب المجال الذي تتعاملين معه وقشوره. العالم مثلًا يعرف أن الحقائق والنظريات العملية ليس الحق (بلام التعريف) وأن تعريفه كعالم متعلق بممارسته “المنهج العلمي” وليس بالنتائج التي يصل إليها. فعندما تأتي بنت إلى بياجيه لتقول له أن تحريك الأشجار لأغصانها هو ما يولد الرياح، فإنه ما يهمه هو المنهجية التي توصلت بها البنت إلى هذه النتيجة وليس النتيجة ذاتها. وعندما تحدثت عن تعلم كتابة في تدوينة سابقة تحدثت عن الكتابة كاصطلاح للتواصل ولذا لم أوقف الأولاد عند ارتكابهم أخطاء في الكتابة. فهم هذه النقطة مهم لأنه يشكل السياق الذي يتعلم فيه الطفل (وبالتالي ما يحاول تعلمه)، فالطفل الذي يعرف أن المهم هو ممارسة المنهجية العلمية يختلف تمامًا في فهمه وممارسته عن ذلك الذي يتعلم في سياق يضفي القيمة كلها على التوصل إلى النتيجة النهائية الصحيحة. كما أن ذلك يشكل لك مساحات الحركة والمرونة داخل المجال الذي تعلمنيه.
(4) ماذا لو كان اهتمام الطفل (ولا طفل باهتمام وحيد) يقع خارج اهتماماتك أو دائرة أولوياتك؟ يمكنك طبعًا مساعدته بإرشاده إلى أشخاص أو مصادر يستطيع التعلم منها، ويمكنك أيضًا أن تخبريه أنك لا تستطيعين دعمه في هذا المجال أو تحدثيه عن مجال آخر، ولكن في إطار تدركين فيه ويدرك فيه أنه ليس مرغمًا على اتباع ما تفضلينه أنت.
يمكننا أن نفعل ذلك ونعد الأطفال لينموا ليصيروا بالغين مسؤولين، أو نرغمهم على خياراتنا ونكسر نفوسهم شيئًا فشيئًا لنحصل على شباب في أوائل العشرين لا يؤتمنون على أنفسهم خلا أن يؤتمنوا على أمتهم.
شكرا يا عبد الرحمن على الإجابة الوافية 🙂
الشكر لك يا مريم على أسئلتك.
سؤال آخر يتعلق بهذه النقطة
“فإن أي محاولة لإصلاح التعليم تركز على المعلم الذي هو العنصر الفاعل في العملية”.
أليس في النموذج الثاني إصلاح المعلم عملية مهمة. برأيي أن عمل المعلم في النموذج أصعب من النموذج الأول. وأن يمتلك المعلم قدر من الحكمة والخبرة وأن يعمل على نفسه ليكتسب مهارات مثل الصبر والإنصات والتأمل والتفهم والبحث المستمر لبناء تجربة تعلم فعالة للمتعلمين المختلفين. كل ذلك يحتاج جهد وشغل على النفس. والمعلم عنصر فاعل في العملية مثله مثل الطفل.
أطرح هذا السؤال لسببين : الأول كثير يكون الحديث على أن التعلم فطري وكما يتعلم الطفل المشي والكلام وحده فهو يستطيع تعلم كل شيء فدور المعلم الأول أن يتنحى عن طريق الطفل ويتركه يتعلم. برأيي أنه حتى عندما أتنحى تظل عيني في صمت تراقب وتلاحظ وتُحلل وهو جهد وعملية فعالة وليس موقف سلبي.
السبب الآخر أحيانا يُقال كما ذكرت أن المعلم هو الأصل ولا أعرف كيف أناقش تلك الفكرة والإجابة على هل هو أصل أم فرع بدون السقوط في النموذج الأول وبدون السقوط في تهميش دور المعلم. فكرة أن هناك عالم وهناك متعلم وأن العلم ليس المكتوب في الكتب وأستطيع أخذه بمفردي فقط ولكن بالتعلم من العالم المربي ومجاورة أهل العلم والحكمة والخبرة. وأن المعلم يستطيع أن يأخذ متعلميه من إشكالات تواجههم ويتفح لهم أبوابًا جديدة وطرقا لن يستطيعوا دخولها بمفردهم. أو كما ذكرت أن يساعدهم في الانتقال من assimilation إلى accomodation .أو كما ذكرها vygotsky في zone of proximal development الأشياء التي لا أستطيع تعلمها واتقانها إلا بمساعدة أهل الخبرة.
ما أعنيه كالتالي: في الرؤية الأولى إن لم يفلح المتعلم ما الذي نفعله عادةً؟ نبحث عن أستاذ أفضل أو دروس إضافية، وهذا جزء من المعنى الذي أراه في عبارة “التدريس يقود إلى مزيد من التدريس،” ولهذا أقول أن المعلم هو محور العملية.
في الرؤية الثانية لا ألغي المعلم ولا أقلل من أهميته، وأتفق معك بأن مهمته أكثر صعوبةً، وأستخدم عبارة “التنحي عن الطريق” بحذر شديد كيلا يساء فهمها، لكن تذكري أن مهمته هي “مساعدة” المتعلم على التعلم. فمن يقوم بالتعلم في محصلة الأمر هو المتعلم نفسه 🙂 بإمكانك أن تحاولي فهمه أكثر وتبني روابط أعمق لتساعديه بشكل أكبر في العملية، ولكن علينا أن نقر بتواضع أننا لا نستطيع تغيير الآخرين على السطح فكيف بتغيير ما في رؤوسهم ونفوسهم؟ هذا أمر يسهل علينا إدراكه في مختلف علاقاتنا (يقولون لا تتزوج وأنت تتوقع أن تغير زوجك) ولكن لسبب ما يعترينا كبر في تقدير مقدرتنا على تعليم أي أحد أي شيء!
عندما نقول مثلًا لا ينال العلم مستح ولا متكبر، فهذا الحياء أو الكبر موقعهما نفس المتعلم وهو الوحيد القادر على رفعهما بتوفيق من الله عز وجل، وإلا فهل لدى معلم وصفة نتبعها لرفع أي منهما من نفوس المتعلمين؟ العلم ليس مصدره الكتب طبعًا، ولكن لو صادفت متعلمًا يرى ذلك فكيف تضمنين تغيير تلك الرؤية؟ هو في نهاية الأمر إنسان حر، وفي أسوأ الأحوال يختار بعضهم ألا يسمع ولا يعقل (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كالأنعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) وحتى خير المعلمين عليه الصلاة والسلام لا يملك له شيئًا.
حتى عندما نتحدث عن عملية التكيف (بمكونيها الاستيعاب والتواؤم) فإن الهدف منها عند بياجيه هو الوصول إلى حالة توازن معرفي equilibrium تتصالح فيه الخبرة القديمة مع المعرفة الجديدة. ماذا لو وجد أحدهم نفسه في حالة استقرار معرفي وأنها “عنزة ولو طارت”؟ ما الذي تملكين له؟
يمكنك بالطبع أن ترغمي أحدًا ما على الجلوس أمامك لتلقنيه أمرًا ما، ولكن لصالح أي مكسب؟ وما الذي ستخسرينه في العملية؟ وما المنظومة الأخلاقية التي ترين فيها هذا سائغًا؟
طيب أعتقد يمكن أن أصيغ سؤالي بشكل أفضل 🙂
عندما نقول مثلًا لا ينال العلم مستح ولا متكبر، فهذا الحياء أو الكبر موقعهما نفس المتعلم وهو الوحيد القادر على رفعهما بتوفيق من الله عز وجل، وإلا فهل لدى معلم وصفة نتبعها لرفع أي منهما من نفوس المتعلمين؟
ليس لدينا وصفة بالتأكيد ولا نملك سوى السعي. ويمكن أن نتحدث عن الحياء هنا ونضع الكبر جانبًا لأنه مرض قلبي. عندما نكون في بيئة تعلم ونشعر أن الطفل (أو أي شخص عامةً) يستحي أن يسأل مثلًا ولا يتصرف بحرية، يمكننا حينها أن نعود لأنفسنا كمربين ونتأمل في ما نقوم به لنجعل البيئة أكثر أمانًا له . فعندما يشعر مرة بعد الأخرى أن أسئلته تُحترم وأن خطأه مقبول وأن محاولاته مُقدرة..ربما ذلك يساهم في رفع الحياء ؟. أليست أفكارنا ومشاعرنا في النهاية هي نتيجة تفاعلنا مع البيئة والبشر والأفكار من حولنا؟
مثلا حضرت مرة ورشة وفيها ترك الأطفال الميسر ورحلوا في نصف الورشة وأخذوا يتحدثون ويلعبون بأشياء أخرى. يمكن هنا أن أقول أن الأطفال لم يثير حمساهم ولم يلفت انتباههم ما أقدمه وهم أحرار في ذلك وأمضي (أعرف أنك لا تقول ذلك :D). ويمكن أن أعود لنفسي مرة أخرى وأتسائل ما الأخطاء التي قمت بها ولم تجعل البيئة ملائمة أو مثيرة للاهتمام.
تلك المساحة بين شعور المربي بالمسؤلية (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)والسعي المستمر لفهمه وخلق بيئة تعلم صحية من ناحية وبين تفهم أن التعلم يحدث في نفس المتعلم وبداخله وتخلي المربي عن السيطرة والتحكم من ناحية أخرى، أحيانًا تكون مساحة ضبابية ومحيرة. متى أقول أن المتعلم أخفق بسببي ومتى أقول ليس من شأني . فالنبي عليه الصلاة والسلام وإن كان لا يملك شيئًا كان بداخله إشفاق دائم ” لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ” و في الحديث “وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي” .
سأبدأ بمثالك عن الحياء. لنفترض أنك وفرت البيئة المثالية من ناحية الأمان بحيث تؤمن الظروف الملائمة التي تكون تحت عتبة حياء الطفل (بافتراض إمكانية ذلك). هل ستكون هذه البيئة مكان التعلم الكلي والنهائي لهذا الطفل؟ لا طبعًا. سيحتاج قطعًا أن ينتقل خارجها عاجلًا أم آجلًا. ما الذي سيفعله حينذئذ؟ إما أن يشعر بعجز تام أو يكون شديد الحساسية أو يشعر بأنه صاحب استحقاق بأن على الآخرين أن يكونوا شديدي الرفق به. هل هذا أمر صحي أن يخرج المرء إلى العالم ويتوقع أن على الآخرين مراعاة مشاعره بإطلاق؟ هل من السليم أن تصله رسالة أن على العلم أن يطلبه بدل أن يكون هو طالبًا للعلم؟ بتصوري أن الخطاب الجزئي الذي يتوجه لجزء من الناس ويهمل غيرهم خطاب غير سليم لأنه يرفع المسؤولية عن بعضهم (وارتفاع المسؤولية مناف للتكريم الإنساني). الخطاب السليم يتوجه إلى طرف بوجوب احترام الغير ودعم الضعيف ومساندته ويتوجه إلى الطرف الآخر بأن يستجمع شجاعته ويمتلك شتات نفسه، وتبليغ هذا الخطاب بشقيه يقع على عاتق المربي. وكما ذكرت في سؤالك، فنحن نتفاعل مع العالم أخذًا وردًا ولا نقف فيه متلقفين سلبيين، وإنه لإخفاق في التربية أن نخرج أطفالًا لا يستطيعون التفاعل مع العالم لأنهم ينتظرون منه أن ”يقدم لهم“ كما اعتادوا.
لست أدعو إلى التكاسل، وكما اتفقنا فهذا النهج فعليًا أكثر صعوبةً. عليك أن تبذلي جهدك بما تستطيعين، ولكنك ستلاقين المتعلم في منتصف الطريق (أو أقرب أو أبعد تبعًا للسياق): عليك أن تؤدي دورك وعليه أن يؤدي دوره كذلك. تبذلين أقصى طاقتك وتشفقين عليه وربما لا تبخلين بالدعاء له، ولكن ”فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ“. الموضوع طبعًا له تشعبات كثيرة وتجليات عدة، سواء من ناحية التنظير أو الإسقاطات العملية. حادثة الأطفال التي تركوا الميسر منتصف الورشة قد تكون مثلًا نتيجة تعاملهم الاستهلاكي مع مثل هذه الأنشطة (كالطفل الذي توفر له الألعاب بلا حساب فلا يعود يلقي لها بالًا)، وبالتالي يكون على المربي معالجة مشكلة تتجاوز تعليم مهارات تقنية محددة بالنشاط الحالي.
هناك فرق هائل في الرؤية بين من يصمم تجربة يأمل فيها أن يتعلم فيها الطفل أمرًا محددًا في زمن محدد (ربما لأن هذه هي متطلبات العميل أو الأهل — وثانيةً أرى هذا في التحديد رغبةً مضمنةً في التحكم بالآخرين) وبين من يريد أن يكون مربيًا حقيقيًا فيقرر مثلًا أن هذا الطفل يحتاج على الصعيد الأخلاقي أو الاجتماعي أو النفسي مثلًا ما هو أكثر أولويةً من مهارة تقنية ما. هناك الكثير مما علينا تعلمه والتفكر فيه. إن تأملت ثقافتنا ستجدين مثلًا ما جرى بين موسى والعبد الصالح (إنك لن تستطيع معي صبرًا) أو ما جرى بين النبي عليه الصلاة والسلام وابن أن مكتوم (عبس وتولى) أو منع النبي لأنس من تبليغ الناس الحديث (إذًا يتكلوا) — أو إن شئت مثالًا أقرب عهدًا ما سمعته مؤخرًا من د. هبة رؤوف من امتناع شيوخ الخطاطين عن إجازة من يعرفون سوء خلقه من تلامذتهم. ما الذي يمكن أن يكون لهذه الأمثلة من إسقاطات عن العلاقة بين المعلم والمتعلم ومجالات العلم والمعرفة؟ نسأل الله حسن الفهم والقول والعمل.
طيب السؤال الآن بما أني أنا المعلم
كيف أبني هذه الروابط بيني وبينه؟
خصوصا اني لم أتعلم بهذا الشكل وإنما بالتلقين
أحسست بكبر الثقل علي
قام بإعادة تدوين هذه على تسنيمات...
(فلا تذهب نفسك عليهم حسرات)
اذا انا فعلت ما علي لا اهتم بالنتائج ان لم تكن مرضية
السؤال كيف اعرف اني فعلا بذلت كل ما علي ولم أقصر؟
متى لا ألوم نفسي ؟