تلك الأشياء الصغيرة التي تصنعنا

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذه واحدة من الرسائل التي كتبتها في سجني العام الماضي، والذي كان فرصة للتفكر.. ليالٍ طويلة من التفكر.


كنز صغير أحتفظ به هو رسمة رسمَتها بنت عملت معها شمالَ سورية. في تلك الرسمة، والتي أرجو أن يستطيع بشر أن يرفق نسخة منها، تحكي البنت عن أخوين زارا المخيم وأحد الأنشطة التي قامت بها معهما برفقة صديقاتها وبمساعدة مشرفة. لم تكن المشرفة سوى والدة أعز صديقاتها والتي كانت تعلمهن حياكة الدمى. كاتيا كان اسم البنت، أما صديقتها فكانت فاطمة.

كانت تلك رحلتي الثانية (صيف 2013) عندما أردت بشدة تجريب فكرة بناء ”شبكات تعلم“ تربط الأطفال بالمتعلمين الآخرين من أقرانهم وبالكبار ذوي الخبرة في المخيم. أردت أن يقتصر دوري على اقتراح المواضيع وتحفيز الفضول والتأمل ومشاركة نصائح عن التعلم مع الأطراف المشاركة. أما الأنشطة نفسها فأردتها تبقى في يد المجتمع تبعًا لمخزونه المحلي من الخبرات والمهارات.

لم يكن لي سابق معرفة بالأم/المشرفة. كنت قد ناقشت والبنات صناعة دمىً (ثم تأليف قصص عنها، ثم ربما بناء مسرح صغير، ومن ثم من يدري؟) ثم تحدثت إلى خياط نعرفه جميعًا، وهو الأخ الذي ذكرته في تقريري عن رحلتي الأولى والذي جذبه العمل مع الأطفال. كنا مستعدين للبدء عندما اعتذر الخياط عن المشاركة في اللحظة الأخيرة. وفيما كنا نتشاور فيما يمكن فعله من أنشطة بديلة قالت فاطمة فجأة: ”ولكن أمي خياطة أيضًا!“

وهكذا بدأنا. تركت للبنات مهمة التحدث إلى أم فاطمة وشرح ما نريد فعله، ولما وافقت أحضرت لها الأشياء التي ارتأت أننا سنحتاجها في عملنا. تركت مع البنات آلة تصوير ليلتقطن صورًا أثناء العمل فيما كنت بعيدًا عنهن. كان علي الانتقال إلى مخيم آخر، ولكني عدت عصر كل يوم لرؤيتهن.

كنا تلتقي في خيمة فاطمة حيث كان أبو فاطمة (وزوج المشرفة) ينضم إلينا. كنت والبنات نتحدث لبعض الوقت عما فعلن وما الذي كان بحاجة إلى المزيد من العمل وكيف يمكنهن المتابعة؛ ثم ألتفت إلى أبي فاطمة لنتبادل القصص ونتحدث عن النشاط الذي تقوم به البنات والأفكار التي تقف خلفه (وملمحًا إلى ما يمكن للمشرفة فعله لتدعم البنات بشكل أمثل). كانت البنات يشاركن في حديث ”الكبار“ من حين لآخر أو تكون لهن أحاديثهن الخاصة ضاحكات ومتجادلات فيما يلتقطن المزيد من الصور. شعرت أني كنت أمضي في الاتجاه الصحيح، رغم إدراكي أنه طريق طويل ما زلنا نخطوا فيه خطواتنا الأولى. لكن الشمال ما عاد كما زرته في رحلتي الأولى وما عاد مرحبًا بنا كما في السابق، مما ترك مخاوف عندي بخصوص سلامتنا وسلامة الأطفال في حضورنا. وزاد الطين بلةً الهجوم الكيميائي على غوطة دمشق المحاصرة والذي خلف مئات الضحايا، مما جعل الكثير من الناس يتوقعون تدخلًا دوليًا ضد نظام الأسد (وربما المزيد من الضربات المشابهة من قبل النظام). كانت العودة إلى تركيا تزداد صعوبةً مع تدفق المزيد من اللاجئين، فقررت إنهاء رحلتي في وقت أبكر من المخطط له دون أن يتسنى لي وداع الأطفال بالشكل المناسب. رسمت كاتيا رسمتها بعد مغادرتي وتركتها مع بشرالذي تخلف عني لبضعة أيام، والذي طواها وأودعها حقيبته.

أخبرني بشر عن الرسمة بعد ثمانية أشهر عندما صدمتنا الأنباء القادمة من الشمال عن استهداف مدرسة المخيم بغارة جوية. كانت جروح فاطمة طفيفة، ولكن كاتيا تلقت إصابةً بالغةً في الرأس. غادرتنا كاتيا بعد أسابيع قليلة، في أيار/مايو 2014.

احتفظت برسمة كاتيا في ملف يحتوي أوراقي الرسمية، مميزةً بألوانها عما يحيط بها من شهادات ووثائق — تلك الأشياء التي يُخيَّل إلينا عادةً أنها تمثلنا وأنها تختصر الغنى الكامن في حياتنا وتجاربنا. تلك الرسمة، مع بضعة أوراق ”غير رسمية“ أخرى أحفظها في ذاك الملف (منها رسائل بيد الغالية أمان) تذكرني دومًا بما أراه نفسي الحقيقية واهتماماتي وشغفي. أحضرت هذه الأشياء كلها لترافقني هنا في سجني. وفيما أفكر فيما سأفعله بعد مغادرتي، أعاود النظر إلى تلك الرسمة، داعيًا الله ألا أخذل أولئك الأطفال وأخذل نفسي بذلك.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه:
search previous next tag category expand menu location phone mail time cart zoom edit close