﷽
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمّي، محمد معلّم الناس الخير، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بعد رحلتي السريعة إلى اثنين من مخيمات النازحين في ريف إدلب، والتي كتبت عنها في الحلقة الأولى من هذه السلسلة من التدوينات، قررت العودة إلى مخيم قاح لقضاء مزيد من الوقت وإجراء الأنشطة والحصول على المشاهدات التي كنت أنشدها عن الكيفية التي يتعلم بها الأطفال ويتفاعلون بها مع محيطهم في الظروف التي تحيط بهم.
مخيم قاح (الموقع على الخريطة) بجوار قرية قاح – ريف إدلب الشمالي – حوالي 15 كم من معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية. كان معظم النازحين إلى هذا المخيم من قرى وبلدات متجاورة في محافظة إدلب، مثل كفرنبل وحاس والمعرة.
أهلاً في مخيم قاح!
عبرت الحدود عائداً إلى مخيم قاح عصر الخامس من كانون الثاني/يناير، حاملاً معي حاسبي المحمول، وآلة تصوير ولوحَي Scratch Sensor Boards و MakeyMakey (لم يتسن لي استخدامهما). لم أكن قد قررت بعد ماهية الأنشطة التي سأقوم بها مع الأطفال أو المواد التي سأستخدمها، ولذا قررت أن أحضر كذلك كميةً من الأوراق وأقلام الرصاص والتلوين.[1] كان عبور الحدود ميسرًا، من ثم كان علي استقلال سيارة أجرة إلى المخيم الذي يبعد حوالي 15 كم من المعبر الحدودي. حالما وصلت توجهت إلى الخيمة التي زرتها في المرة الماضية ليفاجأ الأطفال الذين تعرفت عليهم آنذاك لرؤيتي بعض الشيء. كان من المعتاد رؤية غرباء كل يوم يزورون المخيم ويلتقطون الصور (وأحيانًا يعدون بالمساعدات)، ومن ثم يغادرون دون عودة، وكانت النظرة العامة إلى الزوار مثلي أقرب إلى السياح 😐 (وبقيت كذلك لبضعة أيام بعد وصولي).

جرى الأطفال بمجرد رؤيتي إلى أبيهم، أبي مصطفى، ليخبروه بقدومي، وكان أن دعاني لمشاركتهم الغداء الذي كان قيد التحضير. كان لأبي مصطفى أربع بنات أعمارهن 4 و 8 و 10 و 16 عامًا وغلام عمره 12 عامًا. شاركنا الأولاد الطعام عدا الابنة الكبرى، فلم يكن من المقبول من البنات اللواتي كن أكبر من 12-13 عامًا أن يختلطن بالغرباء أويشاركن بأنشطة مختلطة. لاحظت امتناع بعض البنات عن الأكل، ولما سألت أخبرتني إحداهن أنهن يتبعن حمية غذائية بينما كن يتعافين من اليرقان. بدأ المرض مع ابنة خالتهم وسرعان ما كان كل أطفال العائلة قد أصيبوا بالعدوى لقلة الرعاية الصحية وازدحام الخيام وغياب النظافة. كان في المخيم كله عيادة طبية وحيدة ضعيفة التجهيز، فيها طبيب وممرضة يعملان بين التاسعة صباحًا والرابعة عصرًا، وكان على الناس الذهاب إلى مشفىً في قرية قريبة في الحالات الطارئة.[2] لم أصادف خلال مجمل رحلتي الكثير من المراهقين. فهمت أن الفتيات منهن لم يكن من المتوقع منهن الخروج من خيامهن لغير ضرورة، ولكني سألت أبا مصطفى عن الفتيان فأجابني أنهم سيكونون خارج المخيم محاولين مساعدة أهلهم بشكل من الأشكال، كجمع الحطب أو البحث في القرى المجاورة عن عمل يدر عليهم شيئًا من الدخل.

انضم إلينا بعد الغداء بعض أقارب أبي مصطفى لاحتساء الشاي فيما كان الأطفال يلتقطون الصور. سألت الأطفال فيما إذا كانت هناك أنشطة محددة يودون القيام بها خلال الأيام القادمة، ولكن لم تكن لهم إجابة محددة سوى قولهم إنهم أحبوا التصوير (الذي مارسوه في زيارتي الأولى)، فكان أن أريتهم بسرعة كيف يمكنهم إنشاء رسوم متحركة بالاستعانة بآلة التصوير. كانت استراتيجتي في اليومين الأولين تجربة العديد من الأنشطة المختلفة لاختيار المدخل المناسب منها للعمل معهم، وكان من الواضح أن الأطفال متعطشون لتجربة أي شيء في ظل قحط الأنشطة الذي يعيشونه، كما كانوا مستعدين لتعلم الكثير من الأشياء في سبيل ذلك.
سألني جَدّ الأطفال، وكان ممن انضم إلينا بعد الغداء، عن حال الناس في المخيمات الأخرى، فأخبرته عن القليل الذي أعرفه عن المخيمات في سورية والأردن وتركية. كان معي جزء من فلم وثائقي قيد التحضير عن مخيم الزعتري في الأردن، عنوانه Tiny Souls (أرواح صغيرة)، فاقترحت على الأطفال مشاهدته. لم تكن الأخبار الخارجة من مخيم الزعتري مبهجةً عمومًا،[3] ولكني في ظل الشكوى والتذمر الظاهرين على الدوام في أحاديث الناس أردت أن أشاركهم الضِّيق الواقع على الآخرين عسى أن يساعدهم ذلك في تقدير ما هم فيه من نِعَم.
لم تمض الأمور كما خططت لها، إذ سرعان ما لاحظ الأطفال (والبالغون) كل تفصيل في الفِلم بدت فيه حياة لاجئي الزعتري أفضل من حياتهم: الخيام الأكبر، ومواد التنظيف، وتوفر شيء من التعليم للأطفال، إلخ… في حين تجاهلوا ما ذكره الأطفال في الفِلم عن الرياح التي تعصف بالخيام وتقتلعها مثلًا. ربما اخترت الفِلم الخطأ 🙂 أحببت على كل حال انتباه الأطفال لما كان يقوله أقرانهم في الفِلم.

انطلقت مع أبي مصطفى إلى المسجد لصلاة العصر، ولما ابتعدنا عن أطفاله سألته عن سبب انتقالهم إلى المخيم. أخبرني أن منزلهم قُصِف، ولكن الله نجاهم إذ كانت العائلة في منزل مجاور لأقاربهم لم تطله سوى أضرار محدودة، ولم يصب إلا اثنان من أطفاله بجراح طفيفة عندما تحطم زجاج النوافذ. سألته إن كان أطفاله ما يزالون يبدون أي أعراض للصدمة نتيجة ما حدث، فأجاب بأن كل شيء طبيعي.[4] أضاف بأن أطفاله اعتادوا قبل تدمير منزلهم أن يصعدوا إلى سطحه ليراقبوا الطائرات أثناء تحليقها، إلا أنهم أصيبوا برعب شديد عندما حلقت طائرة مقاتلة فوق المخيم قبل شهر من زيارتي.
لم يكن التدخل في الأزمات من اختصاصي وإن كنت أتعلم المزيد عنه، ولذا استشرت بعض الأصدقاء وبدأت القراءة عن الموضوع.[5] فهمت أن الاستراتيجية الأساسية هي الإنصات إلى الناجين وتمكينهم والثقة بهم للوصول إلى استعادة توازنهم بنفسهم، وهذا شبيه بما أتبعه بما يخص التعلّم: الإنصات إلى المتعلمين وتمكينهم والثقة بهم ليقودوا عملية التعلم بأنفسهم. وكنت على أي حال مرتاحاً لخوض هذه التجربة لأنها الوسيلة الأفضل لتعلم المزيد.
سمّ الناس في هذه الظروف وانظر إليهم وعاملهم على أنهم ناجون وليسوا ضحايا يستحقون الشفقة. قد يبدو الفرق طفيفًا بادئ الأمر، ولكن بالغ الأهمية، لأنه يعني التركيز على جوانب القوة والصبر والثبات فيهم بدل التركيز على نواحي الضعف.
”من المغري بادئ الأمر عند التعامل مع الناس في الأزمات – والصغار منهم خاصةً – التصرف كالفارس الشجاع على جواده مقبلًا لإنقاذ الضحايا المساكين من اضطرابهم وبؤسهم، ولكن وظيفتك أكثر تواضعًا (وأهميةً): مساعدة الأطفال وعائلاتهم على استخدام أدوات بحوزتهم ولكنهم غافلون عنها ليعيدوا بناء حياتهم. قد يبدو الناس في الأزمات غارقين في بؤسهم، ولكن لديهم الكثير من مكامن القوة والإبداع التي يحتاجون من ينبههم إليها.“ [مقتبس بتصرف طفيف من بحث من تأليف Lennis Echterling]
عندما عدت من الصلاة أخبرت الأطفال أنه يمكننا باستخدام آلة التصوير التي كانت معي إعداد فلم وثائقي قصير يشبه ما شاهدناه سويًا عن مخيم الزعتري، ولما أعجبتهم الفكرة اقترحت البدء برواية بعض القصص. جمعت فاطمة ذات العشر سنوات البنات الأصغر لتبدأ بقصة. لم أفهم صراحةً الكثير مما قالته فلم أكن قد تأقلمت مع اللهجة بعد وكانت تستخدم بضع كلمات لم أعهدها، ولكننا تابعنا التسجيل رغم ذلك. بعد انتهاء التسجيل مع فاطمة اقترحت أن نقوم بالأمر نفسه مع الصغيرة أميمة (4 سنوات)، فبدأت بقصة أتبعتها ببضع أغان، فيما كان أخوها مصطفى يقوم بالتسجيل معظم الوقت، وبعد كل مشهد كنت أناقش مع الأطفال زاوية آلة التصوير والإضاءة مستعينًا بالقليل الذي أعرفه لنجعل المشهد التالي أفضل جودةً.
كان التالي مصطفى، الأخ الأكبر ذو الاثني عشر ربيعًا. سألته أن يتحدث عن رحلة عائلته إلى المخيم، والأشخاص الطيبين والأشياء الجيدة التي صادفها فيها، وكيف تمكن من أن يكون على قدر هذه التحدي. حصلت في المجمل على ما اعتبرته إجابات معلّبة من النوع الذي يعطيه طالب مجتهد لأستاذه كي يرضيه. فعندما سألته مثلًا عن مصدر قوّته وثباته أخبرني بأنه المدرسة والأقارب والتعليم وبأنه ”يتوقف عن اللعب كي يحصل على درجات جيدة في المدرسة“. لم يفلح الأمر، إلا أن ذلك كان متوقعًا لعدة عوامل: طبيعة الأسئلة غير المعتادة (وقلة خبرتي في طرحها بشكل سلس)، ورهبة التسجيل، وحداثة العلاقة مع الأطفال، ووجود أبي مصطفى الذي كان يحاول إملاء بعض الأجوبة ظنًا منه أن ذلك يساعدني. لم أشأ الضغط على مصطفى فشكرته وأخبرته أني حصلت على ما أردت (وقررت البحث عن طرائق أخرى للحديث مع الأطفال). أعجبني رغم ذلك مقطع سألت فيه مصطفى عن الأشياء الجميلة التي صادفها في رحلته فحدثني عن جمال غروب الشمس والنجوم في السماء الصافية.
تعلّمت أن أكون أكثر حذرًا أثناء قيامي بالتوثيق والتصوير خلال الأيام التالية. يصعب على الناس، والأطفال خاصةً، أن يكونوا على سجيتهم أمام آلة التصوير، كما أنه يصيب الأطفال بالتشتت إن كانوا في منتصف نشاط ما. في حالة المخيّم خاصةً يحس العديد من الناس كذلك بأنهم صاروا مادةً للاستهلاك الإعلامي مع كثرة ”السياح“ الذين يأتون لالتقاط الصور، حتى أن المشرفين على المخيم باتوا يمنعون التصوير ما لم يكن هناك فائدة مباشرة يدركها المخيم من ذلك. اتبعت عدة أساليب كي أحصل على توثيق وإجابات أكثر طبيعية ومصداقية كأن يقوم الأطفال أنفسهم بالتصوير (وإدارة الحوار إن وجد). تجنبت كذلك التصوير ما أمكن في لقاءاتي الأولى بمجموعة جديدة من الأطفال حتى يتعودوا وجودي بينهم (ومن ثم وجود آلة التصوير). في العديد من المقاطع التي سجلتها مع الأطفال كانت القصص التي أحصل عليها تأتي ضمن سياق حديث طبيعي معهم (أثناء استماعي مثلاً لشرحهم لمحتوى بعض رسوماتهم)، وبعد إكمال حديثهم دون تصوير كنت أستأذنهم في إعادة قصصهم أمام آلة التصوير إن وجدت فيها ما يهمني.
استأذنت أبا مصطفى بالمغادرة لما غابت الشمس، وتوجهت إلى الشخص الذي وعدني بتأمين مبيتي في المخيم. كانت كنيته أبا طلال، وكان المسؤول عن الأمور المالية في المخيم وتأمين احتياجاته الأساسية مما جعله شخصًا محوريًا هناك. عرض علي أبو طلال المبيت معه في المستودع (خيمة التخزين). قررنا النوم باكرًا مع اشتداد البرد، واغتررت بكيس النوم الذي أحضرته معي إلا أنه لم يغن عني شيئًا، فاستخدمت معه ثلاثة أغطية لتقيني بالكاد برد الليلة. عرفت فيما بعد أن هذه الأغطية الثلاث هي كل ما يحصل عليه كل فرد في المخيم.
زيارة المدرسة
اتفقت مع أبناء أبي مصطفى على الاجتماع صباحاً لنذهب معاً إلى المدرسة لنقوم ببعض الرسم وطلبت منهم دعوة بعض أصدقائهم إن شاؤوا. لم تكن المدرسة سوى الخيمة المخصصة كمسجد، وكان الأولاد يأتونها في العاشرة صباحًا كل يوم عدا الجمعة ليتلقوا شيئًا من التعليم الشرعي من قبل مدرِّسَيْن شابين متطوعَين — جزاهما الله كل خير — أحدهما من المخيم نفسه والآخر من خارجه، فيما يحين دور الفتيات بعد صلاة الظهر. كان المدرس الذي قابلته يومها، وسيم، أحد أبناء المخيم ويدرّس تطوعاً دون تدريب مسبق، ولكنه كان يرى من الخطأ ترك الأطفال دون أي تعليم. كان لديه خمسون ولدًا وخمسون بنتًا تقريبًا أعمارهم بين السادسة والثالثة عشر[6] (ولم يكن أبناء أبي مصطفى يرتادون هذه الدروس).

عندما دخلنا الخيمة كان هناك درس للأولاد في النصف الأمامي من الخيمة. كان معي سبع بنات وصبي ولم أكن قد قابلت المدرس وسيمًا أو أنسق معه، فطلبت من أطفالي الجلوس في مؤخرة المسجد. أردت أن أبدأ مع الأطفال بنشاط سهل يستطيعه جميعهم (أسمي هذا النوع من الأنشطة ذات أرضية منخفضة)، وأستطيع خلاله تشجيعهم على التحدث إليّ عما يعرفون لتعزيز العلاقة بيننا. أعطيت كلًا منهم ورقتين وقلم رصاص وأخبرتهم أن يرسموا ما يشاؤون دون أن يفتعلوا الكثير من الضجة. كانت معظم الرسومات منازل مع أنهار وجبال، وكلما أعلن أحد الأطفال انتهاءه وأراني ما رسم كنت أطلب منه إخباري عما رسمه والقصة منه. لم تكن لدى معظمهم أي قصة فكنت أسألهم أن يسمّوا لي ما رسموا على الأقل: بيوتًا وأشجارًا وطيورًا وهكذا، ليبدؤوا التحدث إلي.
عندما انتهى درس الأولاد قبل الظهر أتاني بعضهم سائلين إن كان بإمكانهم مشاركتنا ما نفعل فرددت بالإيجاب ووزعت عليهم الأوراق والأقلام. كان من هؤلاء الأطفال من لم يرَ أي أوراق أو أقلام لأشهر. جرت العملية بشكل مماثل إلا أن الدبابات والحوامات بدأت تطغى على المشهد بدل الأشجار والطيور، وستصبح المعارك هي الموضوع الأساسي للرسم لعدة أيام قادمة.


تابعنا الرسم بعد الظهر أثناء درس البنات، وبانتهاء الدرس قبيل العصر كان قد اجتمع حولي عدد أكبر من الأولاد والبنات فقررت عرض فلم أرواح صغيرة ثانيةً. كان في ذهني هدف مختلف من العرض هذه المرة، إذ أردت أن يشعر الأطفال بالارتباط بأطفال من أماكن أخرى من سورية، ويعرفوا أنهم ليسوا وحدهم في هذه المحنة.[7] أردت كذلك أن يشاهد الأطفال أطفالًا آخرين يعبّرون عن أنفسهم ويتحدثون عن ظروفهم وما مروا به. تابع الأطفال الفِلم باهتمام (وكذلك بعض الكبار الذين بدؤوا بالتوافد لصلاة العصر). كان عدد المتابعين أكبر من أن أسأل عن انطباعات الأطفال عما شاهدوه فسألت عموماً عن عدد من أعجبه العرض فرد معظمهم بالإيجاب. اللطيف أن بعض الأطفال كان يشير إلى أن الخيام في الفِلم أكبر من خيامهم فيجيبهم بعض أبناء أبي مصطفى بأنهم يعانون من فيضان المياه هناك (وكان هذا مما سمعوه مني في اليوم السابق 🙂 ).

أتاني العديد من الأطفال بعد انقضاء صلاة العصر — وكنا ما نزال في المسجد — طالبين أن ألتقط صورًا لهم، ولكني لم أتشجع لذلك (وراودني شعور السائح ثانيةً)، وكان عدد الأطفال أكبر من أعطيهم آلة التصوير ليأخذوا الصور بأنفسهم. عرضت عليهم بدل ذلك أن نبدأ بصنع بعض الرسوم المتحركة وأريتهم ما فعلته مع أبناء أبي مصطفى في اليوم السابق، وجهدت نفسي لأريهم أمثلةً أخرى لم تكن بالغة النجاح، ولكن كنت أشير إلى أخطائي بأنها أمور عليهم اجتنابها عند تنفيذ مشاريعهم 😛 توزّع الأطفال في فرق لإنشاء مشاريع صغيرة واقترحت إنشاء شخصيات مختلفة من الورق وتحريكها لأقوم بتصويرها، وسرعان ما بدؤوا إنشاء أشكالهم الخاصة وابتكار طرائق للتغلب على التحديات التي واجهوها كإضافة خلفية لرسومهم. أنشأت الفرق المختلفة مشاريع بجودة متنوعة، ولكن البعض أمتعه مجرد فكرة تقطيع الأوراق لإنشاء أشكال منها.
رغم أني اقترحت على الأطفال العمل على بناء أشكال لتحريكها، فإن بعضهم قرر أن يقضي وقته ويركز على بناء الأشكال الورقية نفسها دون أن يهتم بتحريكها لصناعة فِلم منها. لم أمانع هذا الأمر حقيقةً، بل وجدته وسيلةً لإضفاء المزيد من التنوع على مخرجات هذا النشاط، ومثالًا يرى فيه الأطفال أدوارًا مختلفة لكل منهم في النشاط نفسه (لو امتد النشاط أكثر لكان من الممكن جمع من كان اهتمامه بناء الأشكال مع آخرين مهتمين بالتحريك كي يشكلوا فريقاً متكاملًا). أستطيع كمعلم أن ألفت أنظار الأطفال إلى فكرة أو ظاهرة أو مادة معينة (الورق في نشاطي هذا) وأن أحاول تحفيزهم بطرح أسئلة أو مسائل أتوقع اهتمامهم بها، ولكني لا أملك أن أفرض عليهم الكيفية التي سيتفاعلون فيها معها أو أن ينصب اهتمامهم على أمر معين، فالأطفال في النهاية ليسوا نسخاً مكررةً من بعضهم، بل لكل منهم شخصيته واهتماماته الخاصة. أثق في الوقت نفسه كمعلم بأن الأطفال يملكون ما يكفي من الفضول ليثير اهتمامهم أي جديد.

كان هذا النشاط تجربتي الأولى للمشاكل التي يعاني منها الأطفال كمجتمع. كان مع كل فريق مجموعة من الأوراق والأقلام ليبني مشروعه، ولكن لم تكن هناك سوى مطواة واحدة متعددة الأدوات لتستخدم كمقص، وكانت كل الفرق تستخدمها لتقطيع الأشكال. كان الأطفال يتشاجرون طوال الوقت للحصول عليها ويأتونني شاكين أن فريقاً ما قد استحوذ عليها لوقت طويل. افتقد الأطفال اللغة اللازمة للتواصل باحترام، وكانوا يستخدمون اللغة نفسها التي يستخدمها البالغون ليعبروا عن ضعف ثقتهم بالآخرين (مثلًا: ”فلان سرق الأقلام أو المطواة“ كانت عبارةً شائعة لقول إن شخصًا استعار شيئًا دون استئذان).
ولكي تكون تجربتي الأولى معهم أكثر متعةً، فقد شاء الله أن تختفي المطواة 🙂 كنت دائم السؤال عنها لأن فريقًا ما كان يطلبها، وفجاةً لم يجبني أحد عن مكانها. قال بعضهم إن طفلًا استخدمها ثم غادر المكان بها(قالوا إنه قد ”سرقها“)، وكان ذلك هو كل ما حصلت عليه ثم عاد كل منهم إلى استئناف عمله كأن شيئًا لم يكن. أزعجني الخطاب المستخدم كما رد الفعل اللامبالي الذي قوبلت به. أخبرت الأطفال أن الطفل الذي ذكروه قد يكون استعار المطواة، وأن النشاط سيتوقف إلى أن تستعاد المطواة. كنا نختبر بعضنا البعض للمرة الأولى ولم أشأ أن أتهاون في الأمر وأبرره بحاجتهم وضيق عيشهم. كنت كذلك في مرحلة تشكيل انطباعاتي الأولى عن هؤلاء الأطفال، ولم أرد أن تكون من نوعية أن عليّ الانتباه أكثر لأغراضي كي لا يستعيرها أحدهم إلى الأبد. أردتهم أن يدركوا كذلك أنهم ليسوا مسؤولين فقط عن أفعالهم الفردية، وإنما تقع عليهم مسؤولية جماعية تجاه ما يجري حولهم، وأنه ليس من المقبول التصرف بسلبية أو لامبالاة. استجاب الأطفال لحسن الحظ فخرج ثلاثة منهم بحثًا عن المطواة ليعودوا بها بعد دقائق 🙂
قد لا يكون ما قمت به الأمثل في هذه الحالات، وأرجو أن أتعلم المزيد عن هذا الأمر مستقبلًا. ما أراه مهمًا في التعامل مع السلوكيات السلبية للأطفال هو محاولة فهم دوافعها الشخصية ما أمكن ذلك، والانتباه إلى الرسائل المبطنة التي نرسلها إلى الأطفال الآخرين من خلال طريقتنا في التعامل مع هذه السلوكيات. طرد صاحب السلوك السلبي مباشرةً من المكان قد يكون مثلاً أسهل الحلول، ولكنه يرسل للآخرين رسالةً مفادها أنهم سيلقون مصيرًا مشابهًا عند فعل ما لا يرضي المشرف على المكان، مما يقلل الثقة بين الطرفين. رغم أن المعلّم (وأي شخص يبادر بالعمل بدل القعود) معرض دومًا للخطأ في التعامل مع حالات مماثلة، فإن أقرب السبل لتدارك الأخطاء هو إبقاء قنوات الحوار مفتوحةً مع الأطفال أنفسهم مما يسمح لهم بمراجعته ونقاشه في القرارات التي يتخذها. يتطلب ذلك طبعًا رصيدًا مسبقًا من الثقة والإنصات. يضاف إلى ذلك ”نفس لوّامة“ تَحمِل المعلم على التفكّر دومًا بالمواقف اليومية التي يمر بها مع الأطفال (من الناحيتين التعليمية والاجتماعية) والتفكير بأساليب بديلة لاستخدامها مستقبلًا. ولكن ليؤتي التفكّر أكله لا بد من وضعه ضمن إطار صحيح من الأهداف. يدّعي الكثيرون أن الهدف من الذهاب إلى المدرسة هو التعلّم، ولكن ذلك لا يعدو عن كونه هدفًا معلنًا لا يقارب الحقيقة بشيء، فالأهل والمدرسون والأطفال يعلمون أن الهدف الحقيقي هو الحصول على الدرجات والشهادات، لذا تجد الطلاب يقولون ”لن أدرس هذا الفصل لأنه غير مطلوب في الاختبار“، وتستخدم الأمهات العبارة الشائعة ”اترك ما تقرأه أو تفعله والتفت لدراستك“ رغم أن الطفل قد يتعلم الكثير مما يفعله، وترى أن ظواهر مثل أن ينسى الطلاب كل شيء بعد الخروج من الامتحان لا تثير أي استنكار، ونَصِف المعلم الجيد بأنه من يهيئ طلابه للاختبار نهاية العام. العمل في ظل هذه الأهداف المشوهة لن ينتج عنه إلا تبرير جميع الممارسات السلبية التي ترتكب مع الأطفال (أو المتعلمين عمومًا). بالعودة إلى مثال التعامل مع الطفل صاحب السلوك السلبي، فإن المدرس الذي هدفه هو تمكين الطلاب من تحصيل الدرجات والشهادات (ما يعني أن عليه إكمال المقرر) لن يتعامل مع الحالة إلا بما يخدم هذه الأهداف، فسيحاول التخلص من وجود السلوك السلبي (أو صاحبه) أثناء درسه، بدل فهمه للتخلص من جذوره، وسيكون ذلك بالترغيب والترهيب أو الطرد إن لزم الأمر. لن يكون للمدرس الوقت لتحري الأسباب (لأن عليه التركيز على إكمال المقرر)، والأهم من ذلك أنه سيغفل عن أن هذه فرصة يمكنه هو وطلابه التعلّم منها كيف يفهمون الآخرين ويتعاملون معهم (لأننا في درس الرياضيات مثلًا وليس درس ”فهم الآخرين“). هذه الاستجابة ليست ما يحدث في النواحي السلوكية والاجتماعية فحسب، وإنما في النواحي العلمية كذلك. فإذا تنبه الأطفال إلى ظاهرة أو حقيقة علمية خارج تسلسل المقرر وودوا متابعة استكشافها فلن يُشجَّعوا على ذلك كي لا يتأثر مسار ”تحصيلهم الأكاديمي“. وبشكل مغاير، فإن المعلم الذي هدفه هو أن يتعلّم الأطفال (وأن يتعلّم هو نفسه كذلك) سيجد في أي تحدٍ أو ظاهرة يواجهها هو أو الأطفال فرصةً لتعلّم المزيد، وسيستغلها بدل تجاهلها. وعند ذلك فقط سيكون تفكّره فيما يجري حوله مصدراً للإصلاح والتحسن.
أتحدث في الحلقة القادمة عن تعلّم وممارسة الكتابة من خلال رواية القصص، انطلاقاً من نشاط الرسم الذي بدأته مع الأطفال.

[1] أثبتت هذه الموارد البسيطة – الأوراق والأقلام – أنها مواد لا تقدر بثمن، إذ لم ير أطفال المخيم أيًا منها منذ أشهر. كان بعضهم يعرض علي ما لديه من نقود قليلة ليحتفظ بقلم رصاص، ولكن لم يكن بإمكاني الاستغناء عن أي منها لحاجتي لها في الأنشطة التي كنت أقوم بها. لم يكن هناك سوى ذلك الكثير مما يمكنني استخدامه عدا ذلك: كانت الموارد شحيحة ومرتفعة الثمن حين توفرها (كانت الليرة السورية آنذاك قد فقدت نصف قيمتها)، ولم يكن لأغلب النازحين أي مورد مالي. كل ما يمكن إحراقه (خشب، أكياس وقوارير بلاستيكية، ملابس غير مناسبة) كان يستخدم للتدفئة غالباً. المادة الوحيدة التي تبقت لي وفكرت باستخدامها كانت الطين رغم عدم خبرتي بها، ولكن برودة الجو وصعوبة الاغتسال وصعوبة الحصول على رعاية طبية مناسبة عند المرض جعلتني أعدل عن ذلك. العودة إلى التدوينة
[2] للحالات ”الطارئة“ معناها الخاص في هذه الظروف، ففي إحدى الليالي أتى رجل شاكيًا أن طفله الرضيع يعاني من الإسهال والإقياء، وكان الجواب الذي تلقاه أن حالته لا تعد طارئة وأن عليه انتظار فتح العيادة في الصباح. الطوارئ المعتادة كانت الاختناق أو الحروق بسبب الحوادث الناتجة عن وسائل الإضاءة والتدفئة المستخدمة في الخيام. العودة إلى التدوينة
[3] كان الخبر الأبرز آنذاك هو وفاة ثلاثة أطفال في المخيم بسبب البرد، وإن كانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قد عزت الوفاة إلى أمراض مختلفة وليس البرد (المصدر). العودة إلى التدوينة
[4] كانت هذه الإجابة هي ما أحصل عليه غالبًا من الأهل والمتطوعين. أخبرني معظم من قابلته من الآباء أن أبناءهم بحاجة لمن يستمع لهم ليخبروه بما مروا به، ولكنهم يقولون كذلك إن أبناءهم بخير. اكتشفت فيما بعد أن إحدى بنات أبي مصطفى كانت ترسم باستمرار الصورة نفسها مع ابنة خالتها: منزل يحيط به أشخاص مسرورون فيما حوامة تلقي قذائفها عليهم. العودة إلى التدوينة
[5] إضافةً إلى استشارة العديد من الأصدقاء ذوي الخبرة في العلاج النفسي والتدخل في الأزمات، فقد كان مرجعي للتعامل مع الأطفال في الأزمات هو Crisis Intervention: Promoting Resilience and Resolution in Troubled Times. هناك كتيب مفيد بالعربية هو التعامل مع الأطفال وقت الأزمات من تأليف مأمون مبيض. العودة إلى التدوينة
[6] كان الأولاد الأكبار يساعدون أهلهم أو يحاولون القيام بأعمال بسيطة في القرى المجاورة لجني بعض المال، أما البنات الأكبر فما كنّ ليشاركن في نشاط مختلط أو مع مدرسين ذكور. العودة إلى التدوينة
[7] أطفال مخيم قاح من محافظة إدلب شمال سورية، فيما أطفال مخيم الزعتري الذي هو محور الفلم من محافظة درعا في الجنوب. العودة إلى التدوينة
بارك الله فيك أخي الكريم
أخي عبد الرحمن..
الإعجابات المبالغ فيها ممجوجة أحيانًا.. لكنني لا أظن أنني أبالغ إن قلتُ أنني معجبٌ بكل شيء هنا.
بأسلوب كتابتك،بطريقة تفكيرك،بالاختصاص الذي اخترته لنفسك،ببياض قلبك وطهارة روحك وحرصك على هذا الجيل اللأهم من أبناء بلدك.
لك كل المودة والتقدير
شكراً لك أخي الكريم على جهودك المبذولة وبارك الله فيك، ولو أني تمنيتك أن تأخذ معك أقلام رصاص أكثر من الحاجة 🙂
لي ملاحظة وحيدة وهي تعقيب عن حديثك عن ضرورة تغيير أسلوب التعليم والتعامل مع الطالب في المدارس.
التغيير نحو أسلوب تعامل تفاعلي يمكن أن يتم بالتديج حتى نصل إلى المرحلة المثالية التي تجعل الطالب يتعلم بالطريقة التي تحدثت عنها.
الإشكالية هي أن المجتمع لا يواكب هذا التغيير! المجتمع فرض هذا النوع من التعليم (الطبيب مردوده المادي أكثر من المهندس لذلك يسعى الجميع للطب (مثلاً) لذلك يركزون على العلامات بدل الفهم……)
إذا افترضنا أن النقلة التدريجية بدأت فالطالب لا بد وأن تتدنى علاماته (رغم ارتفاع فهمه) وبالتالي سيتأثر مستقبله مالم يتم تغيير في المجتمع يوازي هذا التغيير المطلوب في المدارس. هذا التغيير لا يمكن أن يتم من دون قرارت سياسية تساعد على رفع السوية المادية وتوفير فرص العمل لكل الاختصاصات.
عندها ستجد من يحب الطب يدخله لا لمرودوه المادي (لأننا صرنا في مجتمع المردود المادي لكل الفروع متوازي) وسيدخل من يحب الهندسة إلى الهندسة….
أما أن يحصل تغيير في طريقة التعليم من دون تغيير في المجتمع فهذا لن يفيد، برأيي؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
للوفرة فوائدها طبعاً، ولكن هناك من الدروس ما لا نتعلمه إلا في ظروف الضيق والشح (وهي السائدة حالياً). وجود عدد محدود من الأقلام كان فرصةً لي وللأطفال لتعلم العديد من الدروس على الصعيد الاجتماعي. المهم برأيي أن نعير اهتمامنا لما يمكن تعلمه مهما اختلفت الظروف.
أوافقك الرأي أن أي تغيير حقيقي في البنى التي نتعلم من خلالها سيرافقه تغيير جذري في البنى الاجتماعية والثقافية السائدة – وأقول يرافقه وليس يسبقه لأن هذه البنى يعزز بعضها بعضاً ولا يمكن تغيير أحدها بمعزل عن الآخر. تغيير المجتمعات موضوع يحتاج نقاشاً موسعاً ولكنه أكبر من مجرد قرارات سياسية، ولا يتم بإشارة من عصا سحرية كي نقبع بانتظاره قبل أن نباشر نشاطنا. ولا يمكننا أصلاً بناء أي تصورات عما يمكن أن يكون البديل الذي ندعو إليه قبل أن نبدأ بتجربة وبناء شيء على أرض الواقع.
أي حراك على الأرض، مهما صغر، تكمن فيه إمكانية لإحداث تغيير. في ظل مواردي المحدودة فإن دوري لا يعدو كوني رائداً يبدي للضائقين بالوضع الراهن بعض البدائل الممكنة، وتحريك المياه الراكدة عسى أن يثير هذا همة آخرين لإحداث تغيير على نطاق أوسع.
الله يجزيك كل خير أخي العزيز عبد الرحمن ..