في تعلُّم واستكشاف اللغة: المنطلقات

الحمد لله الخالق المنان، معلم الإنسان البيان، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بداية العام الدراسي الماضي كان على الأطفال السوريين في تركيا المستعدين لبدء الصف الأول التوجه إلى المدارس الحكومية التركية بدل الالتحاق بالمدارس السورية (مراكز التعليم المؤقت) التي تدرس طلابها بالعربية، وفي هذا العام سيكون على طلاب مزيد من الصفوف الالتحاق بالمدارس التركية، فيما يبدو أن ما بقي من مراكز التعليم المؤقت بات في الرمق الأخير بعد أن أغلق الكثير منها.

وفي هذه الأثناء يضاف إلى قائمة الأسئلة التي أبحثها فيما يخص بناء بيئات تعلُّم آمنة تتيح للنشء فرص النمو الذهني والنفسي والاجتماعي، يضاف إليها سؤال اللغة والهوية والثقافة. شيئًا فشيئًا ستنقطع روابط الكثير من الأطفال بلغتهم ويضحي استكشاف هويتهم بل حتى دينهم أكثر صعوبة. ولكن الحديث عن هذه الأفكار الآن لا يعني أن الكيفية التي كان أطفالنا يتلقون بها لغتهم كانت جيدة أو حتى مقبولة، بل أن الموضوع صار أكثر إلحاحًا.

هذه التدوينة هي الأولى من مجموعة تدوينات أعرض فيها أفكارًا غير مرتبة عن تعلم اللغة، تحدثًا وقراءةً وكتابةً، والتي أحاول البناء عليها في تجربة جديدة أساهم فيها في الريحانية بإقليم هاتاي، ولعل مشاركتها هنا يساعد في تنظيمها في ذهني وجمع شتاتها.

عن تعلم العربية الفصحى

اهتمامي تحديدًا هو العربية الفصحى وليس العامية المحكية، باعتبارها لغة القرآن، وحامل الهوية والتاريخ للأمة. ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن الواقع اللغوي للمتحدثين بالعربية يتسم بما يسمى ازدواج اللسان أو الثنائية اللغوية diglossia، حيث تستخدم لغتان أو لهجتان في المجتمع الواحد جنبًا إلى جنب. تستخدم إحدى هاتين اللغتين في الحياة اليومية (وتدعى اللغة السفلى)، فيما تستخدم الأخرى في مجالات مخصوصة كالأدب والتعليم ولكن ليس في المحادثات العادية (وتدعى اللغة العليا)، وتكون العليا منهما عادةً أكثر تعقيدًا وانضباطًا قواعديًا. أول من لفت نظري إلى هذا الأمر هو الأستاذ عبد الله الدنان، والذي ينطلق من هذه الثنائية باعتبارها مصدر كثير من العلل والتعثرات الثقافية والتربوية في العالم العربي.

هذا الثنائية قد تفسر مثلًا ضعف إقبال الأطفال على القراءة، وانعكاس ذلك على ضعف تحصيلهم العلمي وقدرتهم على التعبير عن أفكارهم، وذلك باعتبار أنهم يواجهون في الكتب لغةً أجنبيةً عنهم غير تلك التي تعلموها وألفوها في حياتهم اليومية. الأمثلة على الاختلافات بين اللغتين أكثر من أن تحصى على مستوى المفردات والإعراب والتصريف والصياغة. ففي حياته اليومية يستخدم الطفل جملةً مثل ”فائِتْ سُعادْ وُأَعْدِتْ جَمْبْ الشِّبَّاك“ في العامية الشامية، بينما إذا انطلق ليقرأ كتابًا فسيجد بدل ذلك ”استيقظت سعادُ وجلست قربَ النافذة“ والتي لا يجمعها مع الأولى في ذهن الطفل سوى سعاد. وكمثال آخر، يختصر ثلاثة عشر شكلًا لتصريف الفعل المضارع في الفصحى إلى ثلاثة أشكال فقط في العامية كما في الجدول التالي.

تصريف المضارع في حالة الرفع مع ضمائر الغائب. المصدر: الدنان، عبد الله (2011). نظرية تعليم اللغة العربية بالفطرة والممارسة: تطبيقاتها وانتشارها. مجلة الممارسات اللغوية. العدد 3.

للأستاذ عبد الله الدنان تجربة مميزة في تعليم اللغة العربية الفصحى للأطفال بالفطرة والممارسة يبنيها على الأسس التالية:

1. الأطفال مزودون منذ الولادة بقدرة فطرية تمكنهم من اكتشاف قواعد اللغة التي يستخدمها الكبار للتواصل معهم.

2. هذه القدرة تمكن الأطفال من اكتساب أكثر من لغة في آن واحد إذا كان لديهم من يخاطبهم بهذه اللغات.

3. هذه القدرة تكون في أوج نشاطها من يوم الولادة وحتى السادسة من العمر، ويقل نشاطها بعد السادسة، إلا أنه يمكن تنشيطها واستنهاضها لتظل تعمل حتى سن العاشرة، وبعد سن العاشرة يتسارع اختفاؤها، وتختفي تمامًا بعد سن البلوغ.

4. بعد اختفاء هذه القدرة الفطرية عند الأطفال يصبح تعليم اللغة عمليةً شاقةً، يضطر فيها الأطفال إلى تعلم القواعد التي يكشفها لهم المعلhمون، والتي يجدون صعوبةً في تذكرها وتطبيقها، وهذه القواعد هي معلومات عن اللغة وليست اللغة.

ويقسم حله إلى مسارين: الأول حل جذري يبدأ من مرحلة رياض الأطفال ويستمر إلى المراحل التعليمية الأخرى، والثاني حل يعالج الواقع الحالي ويبدأ من المرحلة الابتدائية ويستمر إلى ما يليها. ينطلق المسار الأول للحل من استغلال قدرة الأطفال قبل السادسة على اكتساب اللغات، والتي تمكنهم من اكتشاف قواعد اللغة بشكل ذاتي وتطبيقها وإتقان التحدث بعدة لغات في آن واحد، أما بعد السادسة فيتطلب الأمر جهدًا من المتعلم حتى يستنهض هذه القدرة، إلى أن يصل العاشرة فيصير في حاجة إلى معلم يكشف له قواعد اللغة الجديدة.

الدنان متحدثًا مع ابنه باسل (3 سنوات وسبعة أشهر) بالفصحى في أول تطبيق عملي لنظريته في تعليم اللغة العربية الفصحى بالفطرة و الممارسة (صُور المقطع عام 1981).

في المسار الثاني للحل (أثناء المرحلة الابتدائية) يُعتمد على الممارسة الوظيفية الدائمة للغة العربية الفصحى، أي أن يتواصل بها المتعلم طوال فترة التعلم، وهو ما يعرف بالغمر أو التغطيس immersion، وانطلاقًا من ذلك ”تُعتمد اللغة العربية الفصحى لغةً وحيدةً للتواصل في المدرسة طوال اليوم الدراسي داخل الصف وخارجه، بحيث لا يسمع الطالب في المدرسة إلا الفصحى ولا يقبل إلا الفصحى.“ على المدى الطويل تجعل هذه الممارسة اللغة العربية مفهومةً ومحببةً لدى الأطفال ويقبلون بذلك على القراءة والمطالعة، ويحققون قدرةً أعلى على التعلم الذاتي بالعربية لأنهم يفهمون ما يقرؤون، كما أنهم يصيرون قادرين على استخدام العربية بإتقان دون الحاجة إلى دراسة النحو والصرف.

حال التلميذ العربي أنه يدخل المدرسة في سن السادسة وقد أتقن العامية، ليفاجأ بأن لغة المعرفة هي لغة جديدة لم يألفها، وإنما عليه تعلمها وإتقانها لاكتساب المعارف الأخرى، أي أن عليه تعلم المعرفة ولغة المعرفة في الوقت نفسه. ولذلك انعكاسات سلبية على المتعلم، منها: صعوبة فهم المصادر المكتوبة للمعرفة وصعوبة التعبير عنها (كتابيًا خاصةً)، واللجوء للحفظ والترديد الحرفي لمفردات المعرفة (لارتباط القدرة على إعادة الصياغة بالفهم)، وضعف القدرة على التفكير والتعلم، وتكون موقف سلبي تجاه الكتاب والقراءة وتجاه اللغة العربية عمومًا نتيجة التجربة السلبية التي يعايشها الطفل أثناء تعرضه لها.

الفيديو التالي تسجيل لمحاضرة حديثة نسبيًا للدنان يتحدث فيها عن أثر غياب الفصحى على الواقع التعليمي في العالم العربي وتجربته نظريةً وتطبيقًا. لا تَفُتْك!

الدنان متحدثًا عن تجربته من ناحية النظرية والتطبيق في محاضرة بالشارقة عام 2014.

عن استكشاف اللغة

عندما نذهب إلى المدرسة، فإن المعلم والمنهاج والكتاب المدرسي والاختبار كلها تفترض أن هناك طريقة واحدةً صحيحةً ومقبولةً لفهم موضوع ما، وأن هناك طريقةً وحيدةً هي الأفضل لشرح وإيصال هذا الفهم. هذا الافتراض سيرتبط بطبيعة الحال بمعتقدين: الأول أن الطلاب الذين لا يفهمون عبر الطريقة التي اخترناها لهم يفتقدون الذكاء الكافي لفهم الموضوع وأن فرصهم محدودة في هذا المجال. أما المعتقد الثاني فهو أن كل واحد منا يأتي إلى الدنيا بمقدار محدد وثابت من الذكاء، وأن أولئك الذين لم يؤتوا القدر الكافي من الذكاء لن يفاجئنا عدم مقدرتهم على الفهم مهما بذلنا من جهد معهم.

على العكس من ذلك، عندما نتحدث عن التعلم من خلال الاستكشاف فإننا ننطلق من افتراضنا أن الناس يتعلمون ويبنون أفهامهم بطرائق ومسارات مختلفة كلها قد تكون ملائمة، وهي تنبع من تنوع خلفياتهم والأفكار والخبرات المسبقة التي يحملونها. هذا يعني أنه لا يمكننا الاعتماد على وجود تسلسل منطقي وحيد لتطور الأفكار، وإنما علينا مساعدة المتعلمين على إدراك أفكارهم الحالية (والمتنوعة بطبيعة الحال) واستكشافها لتطوير أفهام أعمق وأكثر تنوعًا.

قد يبدو ذلك مقبولًا أو حتى جميلًا عندما نتحدث عن تعلم مجالات المنهجية الشائعة فيها هي الاستكشاف والتجريب أصلًا كالفيزياء والعلوم عامةً، ولكن عادةً ما كانت تأتيني التساؤلات والتشكيكات (النابعة من نفسي أحيانًا) عن الكيفية التي يمكن بها تعلم ما يعده الناس من الأساسيات (كاللغة مثلًا) من خلال الاستكشاف، بما يتضمنه ذلك من عبث ومحاولة وخطأ.

في كتابها امتلاك الأفكار الرائعة The Having of Wonderful Ideas، تعنون الأستاذة إلينور دكوورث Eleanor Duckworth الفصل الثاني ”لغة وفكر بياجيه، وبعض التعليقات عن تعلم الهجاء“ وتناقش فيه انطلاقًا من أبحاث جان بياجيه Jean Piaget أن التفكير والتحليل المنطقي يسبقان اللغة وليس العكس، أي أن محدودية اللغة لا تعني بالضرورة محدودية الأفكار (كما نخبر في تلك اللحظات التي يخطر ببالنا شيء ما ونقول أننا لا نجد الكلمات للتعبير عنه)، وأن جذور منطق وتفكير الأطفال تكمن في أفعالهم وليس في كلماتهم، وتُتبع ذلك بالحديث عن العلاقة بين اللغة وتكوّن الأفكار. تشير دكوورث ضمن ذلك إلى أن تطور اللغة يعتمد على مستوى التفكير بدل أن يكون المسؤول عنه، أي أن المرء إذا امتلك القدرة على المعالجة المنطقية لموضوع ما فإنه سيجد الكلمات اللازمة لتمثيله، أما امتلاك الكلمات وحدها فلن يقود بالضرورة إلى تطوير فهم أفضل للموضوع (اربط هذا مثلًا بالطريقة التي يتعلم بها الطلاب الرياضيات في المدرسة، حيث يركزون على تمثيل المعطيات الرياضية — أي أن يتحدثوا لغة الرياضيات — بدل التركيز على تعلم التفكير الرياضي). إلى هنا لا يبدو أن هناك حاجةً إلى تزويد الأطفال بأدوات لغوية إضافية لتحسين تفكيرهم ومعرفتهم، لأن استعمالهم للغة سيكون دومًا تبعًا لتفكيرهم ومناسبًا له. ومن هنا تنتقل دكوورث إلى القسم الأخير عن تعلم الهجاء والذي هو محل اهتمامي في هذه التدوينة، والذي أقتبس منه التالي بشيء من الاختصار وبعض التصرف:


رغم ما سبق الحديث عنه من تقديم التفكير على اللغة، ومن أن تطوير الأطفال لتفكيرهم ومعرفتهم لا يعتمد على اكتساب أدوات لغوية، إلا أن أهمية اللغة وأهمية وجود أساليب وقواعد لغوية معيارية يُصطلح على صحتها تنبع من ضرورتها للتواصل بين الناس. تلعب القواعد المعيارية دورًا في عملية التعلم من حيث أن وظيفتها هي ”ألا نلاحظها“، وبذلك نستطيع التركيز أثناء التواصل على المضمون بدل الانشغال بمحاولة فهم الكيفية التي قيل بها. ولكن هذا قد يضعنا في تناقض نحن المربين: فمن وجه نطلب من الأطفال أن يتصرفوا بذكاء ويركزوا على مدى منطقية ما يسمعون ويقرؤون، وليس على تفاصيل الكيفية التي يُعرَض بها، ومن وجه آخر نريد أن نلفت انتباههم إلى التفاصيل كي يستطيعوا التواصل بشكل أكثر كفاءة، ملمحين أثناء ذلك أن عليهم إيقاف تفكيرهم أو ذكائهم من حين لآخر كي يتبعوا القواعد ”الصحيحة“ التي نمليها عليهم.

خذ هذا المثال: تخيل طفلًا ما زال في مرحلة تعلم الأحرف، وقد تعلم لتوه شكل الحرف C وأخذ برسمه، ولكن معكوسًا Ↄ. سيقول له أحدهم ”لااااااا… هذه ليس C. حرف C يكتب هكذا.“ بعد مضي ساعة سيكون  هذا الطفل في درس آخر عن الأشكال وسيكون متوقعًا منه أن يدرك أن المربع (□) يبقى مربعًا وإن دورته ليقف على رأسه كالمعين (◇)! كيف يتوقع من الطفل أن يستوعب هذا رغم أن قد يرى أن الشبه بين Ↄ و C أكبر من الشبه بين □ و ◇؟ هل المطلوب منه أن يكون ذكيًا إذ يتعامل مع المربعات فيما تتقافز في كل الاتجاهات، بينما عليه تقييد ذكائه أثناء تعامله مع الحروف؟ (ا.هـ)


وأضيف مثالًا: كلمات ”هذا“ و”هؤلاء“ و”الرحمن“ تكتب اصطلاحًا دون ألف رغم إثبات الألف لفظًا، ولا تُكتب ”هاذا“ و ”هاؤلاء“ و ”الرحمان“. الشذوذ في اللغة بشكل ما هو إيقاف للتفكير بعض الشيء والتوقف عن القياس وتطبيق المعايير التي تعلمناها مسبقًا. على الطفل هنا الانتباه إلى تفصيل هو أن هذه الكلمات تأخذ وضعًا خاصًا في كتابتها رغم أن تحليله للفظها يقوده لكتابتها بشكل مختلف.

عندما نتحدث عن الكتابة فإنها تبدو لنا ساكنةً لا تقبل التعديل والتبديل، ولا تحتمل بالتالي التساهل مع أخطاء الأطفال فيها، ولكن الأمثلة التي أوردتها آنفًا وأضرابها تخبرنا أن الكتابة غير ذلك، وأن الكتابة في نهاية المطاف مجرد اصطلاح يمكن أن يتغير عبر الزمان والمكان والسياق (كما في الصورتين أدناه)، وهذا ما يمكن أن يعطيها قابليةً للتجريب والاستكشاف، ويعطينا مرونةً ومساحةً لأن نقبل من الأطفال ”اصطلاحات“ جديدة بينما هم في طور تعلمها.

أوائل سورة طه بخط غير منقوط. لاحظ كذلك أنه يمكن للكلمة أن تمتد على سطرين.
أوائل سورة البقرة من المصحف الحسني المغربي، حيث اصطلح المغاربة على كتابة حرف الفاء بنقطة تحته (ڢ بدل ف) وحرف القاف بنقطة واحدة فوقه (ڧ بدل ق).

عندما قابلت بنت أخي نايا لأول مرة كان عمرها عشرون شهرًا. كان لديها آن ذاك هوس عجيب بالهررة وكانت تطلق عليها اسم ”كوكو“. عندما يأتي المساء وتبدأ نايا بجذبي وقول ”كوكو“ باستمرار كنت أعرف أن علي الخروج معها إلى الشارع والبحث عن الهررة تحت السيارات وقرب حاويات القمامة كي تشبع شغفها بمشاهدتها. وعندما برمجت لها لعبةً باستخدام سكراتش صارت تشير إلى هر سكراتش كذلك باسم ”كوكو“. بعد أيام انتبهت أن نايا كانت تشير إلى ذبابة باسم ”كوكو“ أيضًا، وفهمت عندها أنها تطلق هذا الاسم على كل الكائنات الحية المتحركة خلا البشر، ولكن عندما كانت تستخدم هذه الكلمة بإلحاح فإن علينا أن نفهم أن المقصود هو الهررة حصرًا، وإذا استخدمتها مع الإشارة إلى حاسوبي فعلينا أن نفهم أن تعني لعبة سكراتش التي صنعتها لها. هل كان علينا أن نصوبها حينئذ؟ لا أظن أحدًا يفعل ذلك. كان لنايا اصطلاحها الذي صنعته للتواصل مع محيطها، وبمرور الوقت وتواصلها مع من حولها تطورت مصطلحاتها تلقائيًا ككل الأطفال، وصارت أكثر ميلًا لاستخدام ما هو متعارف عليه بين البشر الطبيعيين 🙂 إذا كنا متفقين على أن نقبل من نايا هذا الاصطلاح غير المعياري أثناء تعلمها الكلام، وواثقين من أنها ستكتشف في نهاية المطاف الاصطلاح المعياري المناسب وتبدأ باستخدامه كي تستطيع التواصل مع الناس خارج عائلتها، فلم لا نأخذ الموقف نفسه — المشجع على الاستكشاف والتجريب والابتكار— تجاه الكتابة، مع أن الكلام والكتابة كليهما وجهان من أوجه التعبير اللغوي؟

أتابع ما كتبته دكوورث:


يتسم موقف المعلمين تجاه هذه الأمثلة بالتوجس والريبة، إذ طالما هناك إجابة وحيدة ”صحيحة“، فعلام استكشاف طرائق أخرى؟ ولكن الأخطاء سترتكب على أي حال مهما عرضت الصيغ الصحيحة على الأطفال. بدل التوجس أو الهروب بإمكان المعلم دعوة طلابه لمشاركة كافة الصيغ التي يرونها ممكنة لرسم حرف أو تهجئة كلمة أو صياغة جملة لتعبر عن معنىً ما، ويمكنه خلال ذلك الإشارة أي هذه الصيغ توافق القاعدة المعيارية المتداولة. فيما يلي مثال عملي عن تطبيق ذلك في برنامج لتعليم القراءة طورته أحد المدارس الناطقة بالفرنسية في مونتريال بكندا لطلاب الصف الأول الابتدائي، ورغم أنه طُور للفرنسية إلا أن الاعتبار به ما زال ممكنًا في سياقات أخرى:

في برنامج القراءة هذا يبدأ الأطفال بكتابة كلمات يريدون استخدامها والتعبير عنها (بدل ممارسة تمارين كتابة الأحرف والكلمات المعتادة)، فيقترح الطفل كلمةً يريد أن يكون قادرًا على كتابتها، ثم يقوم طلاب الصف جميعًا بتفكيكها إلى الأصوات التي تكونها. كلمة COUSIN الفرنسية مثلًا (وتعني ابن عم أو خال) يمكن تفكيكها إلى الأصوات K OO Z IN. تقوم المعلمة بعدها بعرض كافة الاحتمالات الممكنة لتهجئة هذه الأصوات: C أو K، و OU أو OO، و S أو Z، وأخيرًا EIN أو AIN أو IN. فيتابع الأطفال بإنتاج كافة الطرائق الممكنة لتهجئة الكلمة، وكلما كانت طرائق التهجئة المقترحة أكثر كان ذلك أفضل، وكلما اقترح طفل طريقةً جديدةً يقوم بكتابتها على السبورة. وبعد أن يستوفي الأطفال ما لديهم تشير المعلمة إلى الطريقة المعيارية المتبعة لكتابة الكلمة.

لاحظ أن الأطفال سيشعرون بالذكاء لقيامهم ببناء صيغ غير معيارية لتهجئة كلمة ما بدل أن يشعروا بالغباء، خاصةً مع تحول الهجاء إلى عملية كيفية تعتمد على تصوراتهم. ولكنهم سيتعلمون أثناء ذلك أن هناك طريقةً واحدةً صحيحةً لكتابة الكلمة سيقومون بتدوينها في دفاترهم إلى جانب الأشكال الأخرى المحتملة. كما أنهم سيطورون بمرور الوقت قدرةً أعلى على تخمين الشكل المعياري للكلمة. في ذات الوقت فإن التركيز بشكل عام ينصب على إيصال ما يريدون إيصاله من خلال الكتابة، وعندما يصير بإمكانهم كتابة كل الأصوات فإنهم سيكونون كذلك قادرين على كتابة أي شيء بشكل مقبول وكافٍ ليستطيع أي أحد قراءة ما يريدون قوله. قد تكون تهجئتهم مختلفةً عن المعتاد، ولكنها مقروءة دومًا وتوصل المطلوب.

لهذه العملية في التعلم قيم واضحة تتمحور كلها حول الكتابة. المطلب الأول من التهجئة هي أن تكون مقروءة (وكتابة هؤلاء الأطفال تكون كذلك دومًا)، ويلي ذلك أن تستخدم التهجئة المعيارية لتسهيل الأمر على القراء. تستمر كتابة هؤلاء الأطفال بالتطور عبر السنين، ولكن ليس عبر الهروب من الأخطاء، ومن خلال البحث النشط عن كل تهجئة خاطئة يمكن الإتيان بها! عندما يشرع الأطفال بالقراءة فإنهم يبدؤون بملاحظة تهجئة الكلمات الجديدة التي يقرؤونها، وبما أنهم يعرفون أن أشكالًا أخرى للتهجئة قد توصل المعنى نفسه فإنهم يدركون أن ما طالعوه للتو هو الشكل المعياري للتهجئة.

وكما أن هؤلاء الأطفال حين يرون كلمةً مكتوبةً يدركون أن شخصًا ما قد اتخذ خيارًا واعيًا بخصوص التهجئة التي سيستخدمها، يدركون كذلك حين يرون نصًا مكتوبًا أن شخصًا ما — معرضًا مثلهم للخطأ — قد اتخذ خيارات واعية بخصوص الكيفية التي كتب بها النص، ويدركون أن الكلمات ليست الجوهر وإنما هي أحد الطرائق الممكنة للتعبير عن المعنى ولا ينبغي التوقف عندها. (ا.هـ)


في التدوينة القادمة بإذن الله أعرض أمثلةً أكثر تفصيلًا عما يمكن فعله لتشجيع الأطفال على استكشاف اللغة والكتابة تحديدًا.

ملاحظة

قد يثير حفيظة المختص عرض منهجيتي الدنان ودكوورث في سياق واحد. يبني الدنان عمله على أبحاث نعوم تشومسكي Noam Chomsky في تعلم اللغة، فيما تتبع دكوورث المدرسة البنائية Constructivism وتتلمذت على يد جان بياجيه. النظريتان مختلفتان، والاختلاف الرئيس بينهما هو في طبيعة الشيء الموجود فطريًا منذ الولادة ليسمح بتعلم اللغة الأم. يجادل تشومسكي أن المرء يولد بقدرات لغوية محددة جينيًا ومستقلة عن الخبرات الحسية، وهي ما يحدد صنف القواعد اللغوية التي يمكن للإنسان التوصل إليها (فهناك إذًا قيود فطرية على ما يمكن تعلمه)، أما بياجيه فيقول أن البنى اللغوية للمرء لا تحددها الجينات، وإنما يتم بناؤها من خلال الاستيعاب assimilation والتكييف accomodation، أي تنظيم عناصر البيئة بشكل بنىً ما قبل لغوية ثم تعديلها عندما تغدو غير كافية — والقدرة على عملية البناء هذه هي الشيء الفطري الموجود وليس البنى اللغوية نفسها. وبشكل عام يمكن القول إن بياجيه يركز أكثر على دور الخبرة في تطور الإدراك مما يفعل تشومسكي.

جرت مناظرة شهيرة بين بياجيه وتشومسكي عام 1975 بمشاركة نخبة من الباحثين من اختصاصات شتى، وسُجلت المناظرة مع تعليقات وأوراق بحثية أخرى عن الفرق بين نظريتيهما في كتاب: Piattelli-Palmarini, M. (1980). Language and learning: the debate between Jean Piaget and Noam Chomsky.

وعلى أي حال، أظن السياق الحالي يسعه الاستفادة مما تطرحه النظريتان في إطار اغتنام ما هو فطري عند الأطفال فيما يخص اكتساب اللغة وفي دور الاستكشاف في هذه العملية.

المراجع

5 رأي حول “في تعلُّم واستكشاف اللغة: المنطلقات

  1. حبييت الموضوع جددا وهذا ما كان يدور في بالي منذ زمن
    وأيضا عندما نرى كثييرا من الاطفال الان لا يتكلمون اللغة العربية بالعامية فضلا عن الفصحى
    ترى بالتزامن مع هذا ضعف في الدين بشكل عام وبخاصة قرآءة القرءان والتفكر فيه.
    وكنت قد قرأت تجربة عن أحد الأشخاص ربما هو معروف لكني نسيت اسمه انه كان يتكلم في المنزل مع اولاده اللغة العربية الفصحى وزوجته العامية
    النتيجة أن أولاده يحبون قراءة الكتب ويشعروا أنها قريبة منهم
    وأريد عرض تجربتي الخاصة:
    أنا مثل غيري اتكلم العامية لكني ختمت حفظت القران وانا صغيرة، فشعرت كيف ان القران اعطاني مفردات وحصيلة لغوية مقارنة بأقراني وكنت أكثر طلاقة في القراءة و سرعة لفهم المقروء

    لكن سؤالي :
    هل يجب علي كمربي ان احاول ان اتكلم مع اطفالي الفصحى ؟
    ام فقط أثناء التعليم؟

    1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
      الذي فهمته من المقالة ومن تجربة صديق لي نجح في تعليم ابنه التكلم باللغة العربية الفصحى على طريقة الدكتور عبد الله الدنان أنه يجب أن يقوم الأب أو الأم بالتحدث مع الأبناء باللغة العربية الفصحى فقط. أي دائماً وكل مكان.

      الحمد لله رب العالمين, التقيت بالطفل و شاهدته و سمعته يتكلم بالعربية الفصحى بدون عناء.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه:
search previous next tag category expand menu location phone mail time cart zoom edit close