في تعلُّم واستكشاف اللغة: تطبيق

الحمد لله الخالق المنان، معلم الإنسان البيان، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذه ثالثة التدوينات التي أعرض فيها أفكارًا عن تعلم الأطفال اللغة واستكشافهم لها. تحدثت في التدوينة الأولى عن منهجية الأستاذ عبد الله الدنان في تعلم العربية الفصحى بالممارسة، ثم عن إتاحة المجال للأطفال لاستكشاف اللغة استكشافًا بدل استباقهم بتقرير ما هو صواب أو خطأ حسب قواعدها. وفي التدوينة الثانية عرضت مثالًا مفصلًا إلى حد ما عما يمكن للمعلم فعله لتشجيع الأطفال على استكشاف وتعلم الكتابة في مراحل عمرية مبكرة. أما في هذه التدوينة فأشارك تجربتي الشخصية في تطبيق الأفكار التي تحدثت عنها في التدوينتين السابقتين، ويظهر فيها بشكل أكبر الرابط بين تعلم الفصحى والبناء عليها فيما بعد لتعلم الكتابة.

تجربتي في استكشاف اللغة

أمضيت فصلًا دراسيًا مع إلينور دكوورث وطالبتها د. ليزا شناير Lisa Schneier في هارفارد خريف 2012 فيما كانتا تدرِّسان مساقًا عنوانه امتلاك الأفكار الرائعة The Having of Wonderful Ideas. يركز هذا المساق على كون فعل التعلّم (الذي يقوم به المتعلم) مصدرًا للتبصر فيما ينبغي أن يكون عليه التعليم (أي ما يقوم به المعلِّم)، ويدرب المعلم على خلق حالات يقوم فيها هو بالاستماع فيما يشجع المتعلم على الحديث عن أفكاره وشرحها (بدل العكس)، وذلك انطلاقًا من أن هناك مسارات مختلفة لتعلم أي موضوع وأن على المعلم تشجيع المتعلمين على استكشاف مساراتهم الخاصة التي تلائمهم وتتفق مع خبراتهم ومعارفهم المسبقة. تعرفت في هذا المساق على أفكار دكوورث وتجارب طلابها وزملائها آنفة الذكر عن التعلم والتعليم وأتيحت لي فرصة التدرب على ممارستها.

بعد انتهاء ذلك الفصل مباشرةً سافرت لقضاء بعض الوقت في مخيم قاح في ريف إدلب قرب الحدود التركية بهدف استطلاع أحوال الأطفال هناك وتجربة بعض الأفكار عن المنهجية التي ينبغي أن يتعلموا وفقها وما يمكن أن يحثهم على ذلك. سجلت ما مررت وقمت به في مجموعة تدوينات أسميتها في مهمة للتعلم في زمن الثورة يمكنك العودة إليها للاطلاع على تفاصيل التجربة.

بدأت العمل في المخيم مع أطفال أعمارهم دون العاشرة بنشاط سهل يستطيعه جميعهم (نسميها أنشطةً ذات أرضية منخفضة) لأشجعهم من خلاله على التحدث إليّ ولأعزز العلاقة بيننا. أعطيت كلًا منهم ورقتين وقلم رصاص وأخبرتهم أن يرسموا ما شاؤوا، ولهم أن يتحدثوا ويتعاونوا دون أن يصدروا الكثير من الضجة. كانت بعض رسوماتهم عن منازل مع أنهار وجبال، فيما بعضها الآخر عن معارك بدبابات وحوامات. كنت كلما أعلن طفل انتهاءه وأراني ما رسم أطلب منه إخباري عما رسمه والقصة التي يحاول تصويرها. لم تكن لدى معظمهم أي قصة في بداية الأمر فكنت أسألهم أن يسمّوا لي ما رسموا على الأقل: بيوتًا وأشجارًا وطيورًا وهكذا، لأشجعهم على التحدث إلي وأخبرهم أن هناك من يستمع إليهم.

بعد فترة وجيزة، وبعد أن يريني الأطفال رسوماتهم ويحكوا لي ما فيها، صرت أطلب منهم أن يكتبوا ما رووه لي للتو. تردد البعض بادئ الأمر، ولكنهم سرعان ما باشروا الكتابة على الرسومات نفسها. كتب بعضهم مجرد أسماء (شجرة، بيت، سمكة…) بينما كتب آخرون جملًا بسيطةً (هذه شجرة، هذا أب يصيد السمك). كانوا يرتكبون أخطاء في الكتابة، ولكني لم أصححها لهم، وعندما كانوا يعودون إلي ليروني ما كتبوا كنت أطلب منهم قراءته.

إحدى رسومات الأطفال مكتوبًا عليها توضيحات لما يجري فيها. بعد انتهائهم من الرسم كنت أطلب من الأطفال إخباري عما رسموه، وبعد ذلك أن يكتبوا على رسوماتهم نفسها ما أخبروني به.

كان الأطفال يكتبون كلمات مثل سمكي و غيمي بدل سمكة و غيمة، أو جملًا مثل ”الاسنين كنو يتسبقون“ بدل ”الاثنان كانا يتسابقان“، ولكني لم أصحح لهم هذه الأخطاء للأسباب التالية:

  • كان تركيزي الأكبر على استعادة الأطفال ثقتهم بأنفسهم وبقدرتهم على التعلم بعد فترة طويلة بعيدًا عن القراءة والكتابة.
  • الكتابة (ككثير من الأشياء الأخرى التي نتعلمها) عبارة عن وسيط نستخدمه لخدمة هدف معين. ما يحدث في المدرسة أن الأطفال يتعلمون استخدام الوسيط دون أن يكون هناك هدف واضح، مما يجعل العملية عبثيةً ودون جدوى بالنسبة لهم. كان هدفنا أن يعبر الأطفال عن أنفسهم ويتواصلوا مع الآخرين، ولم أرد للهدف أن يضيع في غمرة التركيز على الوسيلة أو الوسيط.
  • الكتابة في نهاية المطاف هي مجرد اصطلاح. نحن نقرأ في القرآن مثلاً: الرحمن و ملك و السموت و الصلوة و مائة، ونعرف أنها تلفظ: الرحمان و مالك و السماوات و الصلاة و مئة. والتنقيط والشكل اصطلاح كذلك. ولذا عندما يبدأ الأطفال تعلم الكتابة فإني أشير إلى ما يكتبونه على أنه طرائق غير تقليدية أو غير معيارية في الكتابة بدل أن أقول إنها أخطاء (وهذا هو الفارق نفسه بين أن نجعلهم يشعرون بالذكاء أو الغباء)، وذلك كما ذكرت في التدوينة الأولى.
  • نتجت العديد من أخطاء الأطفال عن محاولتهم كتابة اللغة العامية المحكية التي يعرفونها، فعندما تنطق فتاة غيمة كـغَيْمِي“ و سمكة كـسَمْكِي، ثم تكتبها كما تلفظها فإن فعلها صحيح من ناحية ما، ومصدر الخطأ ليس طريقة تفكير هذه البنت في تحويل الملفوظ إلى مكتوب، وإنما في الملفوظ نفسه. تدخلي كمعلم في هذه الحالة لأقول لها أن ما تلفظه كـسَمْكِي“ ينبغي أن يكتب ”سمكة“ لن يساهم إلا في تشويشها وتوقفها عن الثقة بالقاعدة [السليمة] التي تتبعها في التهجئة، وستلجأ عندئذ إلى استذكار كيفية كتابة كل كلمة على حدة (بعد أن تشعر بالكره تجاه الكتابة) بدل ممارسة ما هو أعلى في سلّم الإدراك أي استنتاج قواعد عامة والعمل وفقها.

بالمحصلة، أرى التعامل مع تعلّم الكتابة (والأخطاء المرتكبة أثناء ذلك) بسبيلين يؤتيان أكلهما على المدى الطويل:

  1. تحدَّث العربية الفصحى مع الأطفال كي يتعلموها ويستقيم لفظهم مع كتابتهم، وخير من بحث ذلك فيمن أعلم من المعاصرين عبد الله الدنّان جزاه الله خيراً، وذلك كما قدمت لهذه السلسلة من التدوينات. قد تسمع من الناس أذىً، وسيخرج من يقول ”لم التنطع؟“ و ”حدثوا الناس بلغتهم“ و ”يعني الأولاد لن يتعلموا إذا لم يحكوا بالفصحى؟“ وكثير غيره، فمن الضروري أن توضّح للآباء (والأطفال إن سنحت لذلك الفرصة) سبب اتباعك هذه المنهجية وتسألهم المساعدة في ذلك، والله المستعان في كل حال.
  2. عندما نتعامل مع الكتابة على أنها اصطلاح فإن ما يشجع الأطفال على اتباع الاصطلاح المعياري المعتمد بين الناس هو شعورهم بالحاجة إلى فهم ما يكتبه الآخرون ورغبتهم في أن يفهم الآخرون ما يكتبونه هم، ولن ينمو هذا الشعور دون أن يقرأ الأطفال ويكتبوا عن أشياء يحبونها وتهمهم، وهنا ينتقل التركيز من الكتابة نفسها إلى المواضيع التي ستتم الكتابة عنها، وهذا ما اتبعته مع الأطفال عندما طلبت منهم رسم قصصهم والكتابة عنها.

الاستجابات قصيرة الأمد مما يجري في المدرسة عادةً من إلزام الأطفال بكتابة الكلمات عشرات المرات كي يحفظوها لن ينتج عنها إلا ما نسمعه من قصص متواترة عن ”الأطفال الذين نسوا الكتابة (والقراءة) بسبب عدم ذهابهم إلى المدرسة.“ والحقيقة أن الأطفال لا ينسون القراءة والكتابة لأنهم لا يذهبون إلى المدرسة، وإنما لأنهم لا يمارسونهما، لأنهم لم يتعلموا قراءة أشياء يحبونها ويهتمون بها والكتابة عنها.

عندما طلبت من إحدى الفتيات في المخيم الكتابة تعللت بأنها لا تعرفها. قدّرت عمرها بثماني سنوات، وعندما سألتها عن الصف الذي هي فيه أجابتني بأنها يفترض بها أن تكون في الصف الثالث، ولكنها لم تكمل إلا الصف الثاني. سألتها إن كانت تستطيع التهجئة فأجابت بنعم، فطلبت منها اختيار إحدى الكلمات من رسمتها لتجرب تهجئتها. أشارت إلى سمكة، وقالت باللهجة المحلية: ”سَمْكِي“ وبدأت تهجئها: ”إس، إم، كاف، إي“، فسألتها إن كانت تستطيع كتابة هذه الأحرف منفصلةً وأشرت إلى ورقة الرسم نفسها، فبدأت كتابتها حرفًا حرفًا (انظر الصورة التالية). أتبعْتُ ذلك بأن تحاول وصل الأحرف شيئًا فشيئًا ثم تكتب الكلمة كاملةً، وكان منها ذلك، فصاحت في سرور وتعجب ”أنا بعرف أكتب!“. جربت الفتاة بعد ذلك كتابة المزيد من الكلمات. كانت هناك كذلك عدة أخطاء لم أشر إليها، إلا أنها استعادت ثقتها بقدرتها على الكتابة.

تهجئة الكلمات على الرسمة نفسها ثم توصيلها. لاحظ ”غَيْمِي“ و ”سَمْكِي“ كُتبتا كما تلفظان في محيط الكاتبة.

بعد قيام الأطفال بإكمال كتاباتهم الأولى كان عليّ أن أدفع الأمور إلى مرحلة تالية. كان بعض الأطفال يعرضون عليّ رسوماتهم ليتحدثوا من خلالها عن قصص كاملة تجري في أماكن متعددة وعبر تسلسل زمني لأحداثها، فيما كانت الرسومات خاليةً من الإشارة لذلك أو تظهر الأحداث فيها متجاورةً دون ترتيب واضح، فصرت أطلب من الأطفال أن يفكروا برسوماتهم على أنها سلسلة من الأحداث. ولأساعدهم في ذلك اقترحت عليهم تقسيم أوراقهم إلى أربعة أرباع، ويفكروا بكل ربع على أنه إطار زمني مختلف، وهكذا أصبح من السهل عليهم أن يكتبوا جملاً تحكي قصصهم فيما تتطور زمنيًا.

تحكي هذه الرسمة سلسلةً من الأحداث ضمن مشهد رسومي واحد: القصف الجوي، فاستشهاد البعض، ثم مجيء الإسعاف والصلاة على الشهداء، وتكرار القصف أثناء ذلك ليرتقي المزيد من الشهداء أثناء الإسعاف والتشييع.
رسمة أخرى تحكي سلسلةً من الأحداث بعد تطبيق فكرة الأرباع لتمثيل إطارات زمنية مختلفة.

وجدت كذلك أن بعض الأطفال أبدوا اهتمامًا أكبر بالكتابة مقارنةً بالرسم، فصاروا يخصصون حيزًا أكبر للنص. كانت القصص تتنوع بين قصص شعبية معروفة وأخرى تروي أحداثًا مر بها الأطفال. الأمر الذي لاحظته كذلك هو أن مشاهد الحرب والدمار بدأت بالتناقص لصالح مواضيع أكثر تنوعًا مع مرور الوقت.

لا بدّ أنك لاحظت أن رسومات الأطفال خلت من أي ألوان، وذلك لأني أردت إضافة قيد إبداعي creative constraint لأرى ما الذي سيخرج الأطفال به دون ألوان، ولأترك لهم فرصة التركيز على الموضوع (القصص التي يكتبونها) أكثر من الأدوات (الألوان التي سيستخدمونها). قيد آخر استخدمته هو عدم تزويدهم بممحاة، فكان عليهم تدارك أخطائهم بطرائق بديلة.

لا يلغي ذلك بالطبع أن وجود أدوات ومصادر إضافية في متناول اليد يفتح آفاقًا جديدةً للإبداع لا تكون متاحةً دونها، ولكن التحديات والعوائق التي نواجهها لها دور كبير كذلك في صقل خبراتنا ودفعنا للخروج بحلول مبتكرة وخلق تقدير أكبر لما هو متاح من الأدوات رغم محدوديتها. التوازن مطلوب على الدوام، ولا بأس بتجريب هذه الأمور واختبار ردود أفعال الأطفال وتفاعلهم مع الأدوات التي نتيحها لهم ولفت أنظارهم إلى هدفنا من ذلك، والتعلّم من ذلك كله.

لألخص ما قمت به حتى الآن:

  1. دعوت الأطفال لممارسة نشاط يحبونه (الرسم) ولا يتطلب منهم جهدًا كبيرًا أو يضعهم في حرج: كلهم يستطيعه، كما لا توجد إجابات صحيحة أو خاطئة تضعهم تحت ضغط منافسة أقرانهم أو محاولة تجنب سخريتهم.
  2. بدأت شيئًا فشيئًا بناء قنوات للتواصل والحوار مع الأطفال. يختلف الجهد اللازم لذلك من بيئة لأخرى، ولكنه ضروري لأسباب كثيرة، أحدها أن دورك كمعلم يعتمد على فهمك لمدركات وأفهام الطلاب، وذلك لن يتم دون منحهم فرصة التعبير عنها. وجود قنوات للتواصل السليم معك يشجع الأطفال كذلك على فتح قنوات مشابهة مع زملائهم وعلى التعاون والمشاركة وبالتالي التعلم من بعضهم البعض.
  3. كانت كل النشاطات التي قمنا بها ذات مغزىً للأطفال. لم يحتج الأطفال لطرح أسئلة من نوع ”ما فائدة ما نقوم به؟“ لأقابلها بإجابات من نوع ”ستعرفون عندما تكبرون.“ إن أحجتَ الأطفال لطرح سؤال كهذا وكانت الإجابة الوحيدة لديك هي من تلك الشاكلة فربما عليك إعادة النظر فيما تقوم بتعليمهم إياه. في حالتنا أحب الأطفال بدايةً الرسم، وعندما كان معهم من يهتم بأفكارهم وتعبيراتهم وسماعها ومحاولة فهمها كانوا على استعداد لبذل جهد أكبر في سبيل إيصالها: ”أنا أكتب لأوصل قصتي وأجعل صوتي مسموعًا.“
  4. تعقيبًا على النقطة السابقة، لم أعط الأطفال أي مكافآت أو محفزات خارجية (وكنت واضحًا معهم بهذا الخصوص). لم تكن هناك مدرسة تلزمهم الحضور أو شهادات يسعون لتحصيلها. لم أقل لهم حتى أن تعلم الكتابة سيضمن لهم مستقبلًا أفضل. حافزهم كان أنهم يستمتعون بوقتهم أثناء عملهم على مشاريع ذات مغزىً لهم. شاهد هذه المحاضرة لتعرف أكثر عما يدفع الأطفال للتعلم.
  5. تطور النشاط شيئًا فشيئًا انعكاسًا لما كنت ألحظه من تفاعل الأطفال معه، بمعنى أنه لم تكن لدي خطة مفصلة لكل ما سأفعله من البداية حتى النهاية. نحن نتعامل مع الأطفال كبشر وليس كآلات، وندرك أن الأطفال سيتجاوبون بأشكال مختلفة لما نقدمه لهم. الاستعداد والتخطيط المسبق مهم وضروري ولكن له حدودًا لا يستطيع تجاوزها، ومن المهم كذلك الاستجابة والتفاعل بشكل آني مع ما نلاحظه من الأطفال (انظر مثلًا فقرة الانتخابات من تدوينة في مهمة للتعلّم في زمن الثورة – الحلقة 4).

أثناء كل هذا لا داعي أن يستقل تعلم الكتابة (أو أي مهارة أخرى) بنفسه عن الأنشطة الأخرى. في التجربة التي أوردتها كان الأطفال عندما يُسألون عما يقومون به يجيبون بأنهم يلعبون أو يرسمون ولم يقولوا أنهم كانوا يتعلمون الكتابة. في تجربة أخرى عملت عليها كانت الخطة بعد كتابة القصص اختيار أحدها لتكون مسرحيةً يعمل عليها الأطفال باستخدام دمىً يتعلمون كيفية صنعها كجزء من النشاط. المهم أن يغذي المعلم باستمرار اهتمام الأطفال بما يريد منهم استكشافه من خلال توظيفه في أنشطة ذات مغزىً بالنسبة لهم.

هذه الممارسات التي وصفتها لتشجيع الأطفال على استكشاف اللغة ليست معقدةً، وما فيها بسيط ولا يستعصي على الفهم. ولكن ذلك لا يعني أنها سهلة التطبيق. مثلًا عدم وجود خطة مسبقة مفصلة يتبعها المعلم ويُجبر الأطفال على التزامها لا يعني أن المعلم قد وفّر على نفسه عبء التحضير، وإنما أن عليه التحضير بشكل أكبر ليكون مستعدًا للاتجاهات المختلفة التي ستمليها اهتمامات الأطفال والتحديات التي ستظهر بعد بدء النشاط وتفاعل الأطفال معه.

ملاحظات ختامية

إعداد المعلمين

ليس من الهين تهيئة المعلمين أو المشرفين الذين سيقودون أنشطة التعلم والاستكشاف التي ذكرتها، والحديث عن ذلك له موضع منفصل. ولكن بشكل مختصر، يعتمد إعدادهم على الأسس التالية:

  • على المعلمين أن يتعلموا بالطريقة نفسها التي سيتعلم بها الأطفال الذين سيشرفون عليهم فيما بعد، وعليهم بالتالي أن يعيشوا تجارب يقومون فيها هم أنفسهم بالاستكشاف ويتساءلوا ويجربوا ويخطئوا ويعاودوا التجربة، وأن يتقبلوا أثناء ذلك أنّ ما يصلون إليه من استنتاجات ويطورونه من أساليب قابلٌ دومًا للتعديل والاستبدال. وعندما نتحدث عن الوصول إلى معلمين واثقين بأنفسهم وأفكارهم فإننا نعني الشيء نفسه الذي ذكرناه عند حديثنا عن الأطفال: لا أن يعتقد أحدهم أن أفكاره صحيحة، بل أن تكون لديه الرغبة والاستعداد لتجريبها.
  • على المعلمين أن يعملوا مع عدد قليل من الأطفال بدايةً ليتمكنوا من ملاحظتهم عن قرب ويدركوا طبيعة ما يخبرونه، ويعطوا الفرصة لأنفسهم ليتفكروا بما شاهدوه وسمعوه من الأطفال، ويطوروا أساليبهم ويجربوا غيرها وفق ما لاحظوه.
  • عليهم كذلك أن يشاهدوا أفلامًا أو يحضروا دروسًا يتعلم فيها الأطفال بهذه الطريقة كي يدركوا أن بوسعهم قيادة نشاطهم بطريقة مشابهة.
  • يحتاج معظم المعلمين دعمًا من زملائهم الذين يحاولون القيام بالأمر نفسه، والذين بوسعهم مشاركة ملاحظاتهم وأفكارهم معهم.

دور التقنية في استكشاف اللغة

ذكرت سابقًا أن التقنيات الحديثة قد تساهم في دعم تجارب التعلم الإبداعي إن استخدمت بالشكل الصحيح، ولكنها ليست شرطًا لازمًا أو كافيًا لحصوله، فالعامل الرئيس في تحديد جودة تجربة التعلم التي نخوضها أو نقدمها ليس الأدوات التي نستخدمها، وإنما الكيفية التي نستخدم بها تلك الأدوات. ولكن إن توفرت أدوات تقنية واستخدمت بالشكل المناسب فإنها تفتح للأطفال مجالات واسعةً ما كان لهم استكشافها دونها.

فلغتا البرمجة سكراتش جونيور ScratchJr وسكراتش Scratch (الأولى للأطفال 5-7 سنوات، والثانية لمن هم أكبر سنًا) تتيحان للأطفال بناء قصصهم التفاعلية ورسومهم المتحركة، مما يعطيهم فرصة ممارسة مهارات لغوية مختلفة خلال العمل على مشاريع تهمهم. وبدل أن يستخدموا برامج أعدها غيرهم لتعلم الأحرف مثلًا، بإمكانهم هم صنع برامج شبيهة بها على سبيل ممارسة ما تعلموه ومشاركته مع أقرانهم. كما بإمكان معلميهم بناء هذه البرامج ومثيلاتها ليضعوا فيها خيارات وأنشطةً قد لا تكون متاحةً في البرامج الجاهزة.

إحدى بطاقات سكراتش عن كيفية إنشاء محادثة بين الكائنات.

لفتت الغالية أمان كذلك انتباهي إلى أن استخدام الأطفال لوحة مفاتيح الحاسب اللوحي في بداية تعلمهم الكتابة يخفف من الالتباس الناتج عن وجود عدة أشكال للحرف الواحد حسب موقعه في الكلمة، مما يتيح للأطفال التركيز على موافقة الحرف المناسب للصوت الذي يسمعونه أثناء تهجئة الكلمات، كما يسهل عليهم تجربة أساليب مختلفة في الاستكشاف لسهولة الكتابة والمسح.

يتحدث الأطفال عندي لغات مختلفة بدرجات إتقان متفاوتة (العربية والإنجليزية والفرنسية) ولذا أركز خلال عملي معهم على استخدام العربية الفصحى وتشجيعهم على السؤال عما لا يعرفون معناه. الجميل أنهم صاروا يحافظون على ذلك تلقائيًا. فمثلًا عندما سجلوا الأصوات سجلوها بالعربية الفصحى دون أن أوجههم لذلك، ولكن مجرد وجودهم في هذه البيئة شجعهم على المحافظة على عادات لغوية معينة، وكان واضحًا كذلك استحضارهم لبعض ما مر معهم في الجلسات السابقة (قصص الأنبياء والتربية الإسلامية). كانت الكتابة في سكراتش فرصة مميزة لممارسة الكتابة لا تتاح لهم عادة، كما أن الكتابة باستخدام لوحة المفاتيح جعلت الكتابة أقل صعوبة لأنه لا حاجة لهم لمعرفة الطرائق المختلفة لتوصيل الأحرف، مما أعطاهم شجاعةً أكبر في التجريب. وبما أنهم اختاروا العربية وحدهم (ولكنهم لا يتقنونها) جربنا أساليب مختلفة للكتابة: تجريب الأحرف، والتناوب في كتابة الأحرف بيني وبينهم، أو المحاولة منهم أولًا ثم التصحيح مني إن لزم (هم من طلبوا ذلك ولست أنا). كنا نقارن بين كيفية كتابتهم الكلمة وكيفية نطقهم لها فيضحكون ويحاولون تصحيحها، مثل كتابهم لعبارة ”أهالان وسهلا“.

من تدوينة تجربتي مع التعلم الحر. مدونة أثر.

المراجع

رأي واحد حول “في تعلُّم واستكشاف اللغة: تطبيق

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه:
search previous next tag category expand menu location phone mail time cart zoom edit close