إعادة النظر في التعلُّم في العصر الرقمي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمّي، محمد معلّم الناس الخير، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذه ترجمة بتصرف يسير للقاء مع متشل رزنك، الأستاذ في الميديا لاب في جامعة إم آي تي، يتحدث فيه عن رؤيته للدور الذي يمكن للتقنيات الحديثة لعبه في تطوير التعليم.

إذا دخلت إلى الفصول الدراسية في مدارس اليوم فستبدو مختلفةً عما كانت عليه قبل عشر أو عشرين عامًا. سترى المزيد من التقنيات في الفصول، وأطفالًا يستخدمون حواسيب محمولًة أو ألواحًا رقمية. ولكن رغم أنها ستبدو مختلفةً بوجود هذه التقنيات الحديثة، فإن مجمل الأسلوب التعليمي لم يتغير إلا قليلًا، وأرى في ذلك مشكلةً حقيقيةً: أن يتمسك التربويون بالأساليب القديمة في التعليم والتعلم رغم كل التقنيات الحديثة التي تحيط بنا.

ما أراه مهمًا هو إعادة النظر بمقارباتنا للتعلم والتعليم لتوافق الإمكانات الجديدة المتاحة في العصر الرقمي. تزودنا التقنيات الحديثة بفرصة لإعادة النظر فيما نتعلمه، وكيف نتعلم، وأين نتعلم ومتى، ومع من؛ ولكن في الكثير من الأحيان لا يستغل الناس هذه الفرصة. نرى بالطبع بعض الإمكانيات الجديدة من حيث أن الحواسيب تزودنا وتتيح لنا الوصول إلى قدر من المعلومات لم يتح لنا من قبل، ولكن يقلقني أن هذه النظرة متمركزة حول المعلومات أكثر مما يجب عندما يتعلق الأمر بالتعليم، إذ جل اهتمامها توصيل المعلومات أو الوصول إليها، وبرأيي فإن هذه ليست الطريقة الصحيحة لإحداث نقلة في التعليم لمواكبة عصر جديد.

كان التعليم — وما يزال — يعني غالب الأمر وجود خبير (هو المعلم) يوصل المعلومة إلى المتعلم، وما نفعله بالتقنيات الحديثة غالبًا هو أمر مشابه: استخدام التقنية لتوصيل المعلومة إلى المتعلم. ما زلنا نتمسك بنموذج يعتمد على نقل أو إيصال المعلومة، كما لو كان التعلم إيصالًا للمعلومة من شخص إلى آخر (أو من تقنية إلى شخص)، ولا أعتقد أن هذه هي الطريقة الأكثر فعاليةً للتعلم، وخاصةً في المجتمع اليوم.

تملك التقنيات الحديثة فرصة الانطلاق بأساليب مختلفة في التعليم. يمكننا مثلًا ألا نعامل التقنية على أنها وسيلة لتوصيل المعلومة أو الوصول إليها، وإنما كمادة لبناء وإبداع أشياء مختلفة في العالم. يعود هذا بالطبع إلى أفكار جان بياجيه، عالم النفس والمعرفة الكبير، والذي تحدث عن كون التعلم جهدًا يبذل في بناء نشط للمعارف الجديدة، وأن المعرفة لا تُقدَّم إلينا من الخارج، ولكننا نبنيها على الدوام بشكل نشط من خلال تفاعلنا مع العالم. ما نريد فعله هو البناء على هذه النظريات التي قدمها بياجيه، ولكن لدينا اليوم خبرات جديدة في الحياة وأشياء جديدة نتفاعل معها ونبدع من خلالها، مما يسمح لنا ببناء المعارف بأشكال جديدة تختلف عما سبق. هذا شيء تعلمته من أستاذي، سيمور بابرت، والذي كان تلميذًا لبياجيه ثم أتى إلى جامعة إم آي تي وأدخل معه نظريات بياجيه إلى العصر الرقمي.

بدأ بابرت يرى في التقنية وسيلةً لجعل الناس يصممون ويبدعون أشياء جديدة، مما يسمح لهم باستكشاف أفكار جديدة. دعني أذكر مثالًا طبقت فيه ذلك في بحثي الخاص. طورت لغة برمجة اسمها StarLogo تسمح للناس بكتابة قواعد بسيطة تتحكم بعدد كبير من الكائنات الصغيرة، ومن ثم مشاهدة السلوكيات العامة التي تنبثق من تفاعلات هذه الكائنات مع بعضها البعض. يمكنك مثلًا كتابة قواعد بسيطة لكل فرد في سرب من الطيور، ثم مراقبة كيف يتطور سلوك السرب من خلال تفاعل الأفراد؛ أو كتابة قواعد بسيطة للسيارات على الطرق ثم مشاهدة كيف تتشكل الاختناقات المرورية.[١] إذا أردت في الماضي أن تدرس هذا النوع من الظواهر العلمية — تشكل أسراب الطير أو الاختناقات المرورية — فقد كنت بحاجة لامتلاك خلفية متقدمة في الرياضيات وحل معادلات تفاضلية جزئية لفهمها، ولكن يستطيع الناس الآن، دون امتلاك ذلك التدريب الرياضي المعقد، أن يستخدموا التقنيات الحديثة لكتابة قواعد بسيطة لمحاكاة السلوك للوصول إلى فهم عميق لظواهر ناشئة من تفاعلات أصغر وأنظمة لامركزية. بذلك يمكن لأشياء لا تُدرَس عادةً إلا في مراحل جامعية متقدمة أن تصبح في متناول تلاميذ المرحلة المتوسطة، متمكنين من استكشاف الأفكار المتعلقة بها.

اتبعنا الأسلوب ذاته عندما عملنا مع شركة الألعاب ليغو LEGO على تطوير مجموعة بناء الروبوت LEGO Mindstorms، والتي تسمح حتى للأطفال الصغار ببناء روبوتات وكتابة برامج تتحكم بسلوكها. عندما يقوم الأطفال بذلك فإنهم يبدؤون باستكشاف أفكار عن التغذية الراجعة والتحكم مثلًا، أفكارٍ هندسيةٍ ما كان لهم أن يدرسوها إلا بعد وقت طويل. لذلك فإن التقنية عندما تستخدم بالشكل الصحيح لديها فرصة حقيقية لتغيير ما يمكننا تعلمه. إنها تسمح للأطفال، حتى دون وجود خلفية رياضية متقدمة، أن يبنوا برامج محاكاة أو روبوتات لتعلم أفكار رياضية وعلمية معقدة.

وبشكل مشابه، تستطيع التقنية تغيير الكيفية التي نتعلم بها. لن يكون الأمر مجرد إيصال للمعلومات، وإنما عمليةً من التجريب والاستكشاف. نستخدم عادةً مصطلح  التَّنْكَرَة أو العبث tinkering،[٢] أي أن يتعلم الناس من خلال الاختبار وتجريب الأشياء لمعرفة ما يفيدهم. تستطيع باستخدام التقنية أن تجرب وتبني سريعًا نموذجًا أوليًا لمعرفة ما يعمل وما لا يعمل، ثم إجراء التعديلات اللازمة وفق ذلك. فكرة البناء السريع للنماذج الأولية، وهي في غاية الأهمية في المجال الهندسي، هي كذلك أسلوب للتعلم، أي أن التعلم يمكن أن يحدث من خلال بناء سريع للنماذج الأولية وتجريب الأشياء الجديدة واستخدام التقنية لنقل أفكارك من ذهنك وتجريبها على أرض الواقع لاختبار جدواها، وهذا ما سيعينك على تطوير أفكار جديدة. هذه الدوامة المستمرة من بناء الأفكار في ذهنك، ثم إبداع أشياء على أرض الواقع لاختبار تلك الأفكار، والحصول من ذلك على أفكار جديدة، هي فكرة أشار إليها سيمور بابرت باسم التعلم بالبناء Constructionism: أن بناء أشياء على أرض الواقع هو أفضل طريقة لبناء الأفكار في ذهنك. يمكن لذلك بالطبع أن يتم دون التقنيات الحديثة، ولكن التقنية تتيح مسارات أكثر تنوعًا  للبناء في العالم، وتوسع مدى ما يمكننا تصميمه، وتوسع بالتالي مدى ما يمكننا تعلمه.

أسلوب روضة الأطفال في التعلّم

في الوقت نفسه الذي نعيد فيه النظر فيما نتعلمه وكيف، يمكننا كذلك إعادة النظر في أين ومتى نتعلم. لا داعي لأن يكون ذلك في المدرسة خلال ساعات محددة من النهار. يمكننا باستخدام التقنية الحديثة التعلم طوال الوقت، متمكنين بأنفسنا من بناء أشياء جديدة دون الحاجة للتواجد في مكان أو بيئة محددين، إذ يمكننا القيام بذلك في برنامج بعد-مدرسي أو في المنزل، صيفًا أو شتاءً. إنها تكسر القيود التي تحدد أين ومتى يتعلم الناس، وأيضًا مع من يتعلمون.

نفكر عادةً أن التعلم لا يجري إلا في الفصل الدراسي مع ناس من العمر نفسه وبمستوىً متقارب من الخبرات، ولكن العديد من أفضل خبراتنا في التعلم تحدث عندما نتواصل مع أناس من خلفيات وبخبرات متنوعة، وهذا ما تستطيع التقنية تيسيره عبر إنشاء شبكات تواصل جديدة على الوب، حيث يستطيع الناس من أعمار مختلفة العمل معًا والتعلم من بعضهم البعض. يمكن للناس الأقل خبرةً التعلم ممن هم أكثر خبرةً، ولكن الأكثر خبرةً يتعلمون كذلك من خلال شرح أفكارهم للأخرين، وهذا شيء لاحظناه في المجتمع الذي أنشأناه على الوب ليرافق لغة البرمجة سكراتش Scratch، حيث يقوم أشخاص من مختلف الأعمار ببناء المشاريع والتعلم من بعضهم البعض. هذه الفكرة عن تعلم النظراء من الناس وبين أعمار مختلفة تدعمها وتحسنها التقنيات الحديثة.

أرى أنه إن فكرنا بالتقنية بالشكل الصحيح، وأشدد على “إن” الشرطية هنا لأن هذا لن يحدث بشكل آلي، فسيمكننا التحرر من المقاربات القديمة للتعلم التي عفا عليها الزمن، مبتعدين عن نماذج نقل وإيصال المعلومة، إلى نموذج جديد للتعلم يتعاون فيه الناس باستمرار على بناء نماذج وإبداع أشياء واستكشاف أفكار جديدة.

أعتقد أن التقنيات الحديثة توفر لنا فرصةً لإعادة النظر في بنية المدارس، فلو كان الأمر لي، لكسرت العديد من الحواجز التي تضعها. تضع المدارس حواجز بين الاختصاصات المختلفة، فهناك دروس منفصلة للرياضيات والعلوم واللغة، ولكن أفضل تجارب التعلم تحدث عندما يعمل الناس على مشاريع متقدمة تتجاوز هذه الحدود بين الاختصاصات، وهذا ما تيسره التقنية. يمكن للتقنية كذلك كسر الحواجز بين الأعمار المختلفة، فيمكن لمدرسة أن يكون فيها طلاب صغار السن يعملون مع طلاب أكبر منهم ليتعلموا منهم ومعهم. يمكن للتقنية كذلك تجاوز الفصل بين ما في المدرسة وما هو خارجها، بالسماح بالتواصل بين خبراء من المجتمع والصغار الموجودين في الفصل الدراسي. ليس علينا رؤية الفصل الدراسي كبيئة منعزلة، بل يمكننا توصيله بالعالم لفتح فرص جديدة أمام عملية التعلم.

من المهم أن نتذكر على الدوام أنه يمكن استخدام التقنية بطرائق عدة، يمكن لبعضها أن تحسن التعلم حقًا وتتيح فرصًا جديدةً منه، فيما يمكن لطرائق أخرى أن تعيقنا وتقيدنا بأساليب قديمة للتعلم لم تعد مناسبة. لا يعنيني كثيرًا الجهاز الإلكتروني الذي تستخدمه، وإنما الطريقة التي تستخدمه بها. أرى أن أفضل طريقة للتفكير بدور التقنية هو النظر فيما إذا كان الطفل في دور المتحكم بالتقنية المتاحة بين يديه أم لا. إن كان الطفل يستخدم التقنية ليصمم ويبني ويبدع ويجرب ويستكشف، فذلك استخدام جيد للتقنية. أما استخدامها فقط لتوصيل المعلومات فيما دور الطفل مجرد استعراض ما يقدم له والتجاوب معه، فلا يعول عليه كثيرًا. ستستمر التقنيات بالتطور، ولكني أعتقد أن هذه القاعدة العامة ستبقى على حالها: علينا البحث دومًا في الكيفية التي يمكن فيها للتقنية أن تستخدم في التجريب والاستكشاف والتعبير عن أنفسنا، سواء ببناء برنامج محاكاة على الشاشة أو استخدام طابعة ثلاثية الأبعاد لإعداد مجسم فيزيائي.


[١] انظر إن شئت هذه المقالة التفاعلية (وهي بالانكليزية) عن استكشاف الظواهر الناشئة: Exploring Emergenceالعودة إلى التدوينة

[٢] يصعب علي حتى الآن إيجاد كلمة عربية مناسبة تقابل مصطلح tinkering. عند بدء استخدامي للمصطلح، كنت ميالًا إلى تعريبه مستخدمًا “التَّنْكَرَة” و تَنْكَرَ فهو مُتَنْكِر 🙂 ولكن ذلك لا يتيح للقارئ أو السامع المستجد تخمين ما يشير إليه المصطلح. صرت بعد ذلك أستخدم “العبث” (رغم ما له من دلالة سلبية) لأن المصطلح يحمل في معانيه الاستكشاف دون التقيد بخطة محددة أو الخوف من التعرض لعواقب وخيمة عند الإخفاق. وما زلت حتى اليوم في حيرة بينهما وبحثٍ عن خيار أفضل يحل محلهما، فهل من نصائح؟ 🙂

في كتابهما الجميل The Art of Tinkering، تعرِّف كارِن وِلكِنسن ومايك بيتْرِتش التَّنْكَرَة كما يلي:

”ولكن ما التَّنْكَرَة؟ بدأ استخدام الكلمة في القرن الرابع عشر لوصف من يعملون في الصفيح ويرتحلون لإصلاح الأدوات المنزلية. ولكننا نرى الكلمة كمنظور أكثر منها مهنةً. إنها التلاعب بالظواهر والأدوات والمواد مباشرةً. إنها التفكير بيديك والتعلم من خلال الفعل. إنها التمهل وإعمال فضولك في آليات وأسرار الأشياء اليومية التي تحيط بنا. إنها عملية لعوبة وممتعة، ولكنها في الوقت نفسه محفوفة بالنهايات المسدودة وحالات الإحباط، وتختصر في نهاية المطاف بأنها عملية استفسار واستكشاف. إنها كذلك صنع شيء ما، ولكن هذا الشيء لن يكشف لك ماهيته مباشرةً، ولكنه سيتكشَّف شيئًا فشيئًا أثناء عملك عليه، لأنك عندما “تُتَنْكِر” لا تتبع سلسلةً من التعليمات تقودك خطوةً فخطوة إلى نهاية واضحة المعالم، ولكنك بدل ذلك تشكك بافتراضاتك عن كيفية عمل الأشياء وتتحقق منها وفق شروطك الخاصة. إنك تأذن لنفسك بأن تجرب هذا وتعبث بذاك، والغالب أنك ستأتي أثناء ذلك بما يأسر قلبك ويسحر لبّك.“ العودة إلى التدوينة

رأيان حول “إعادة النظر في التعلُّم في العصر الرقمي

  1. من أي عمر لو سمحت ممكن تطبيق هذه الأفكار؟

    1. هذه الأفكار غير محصورة بعمر محدد. مارسنا هذه الأفكار أو عايناها ممارسةً في مختلف المراحل، من الصغار في الحضانة حتى الطلاب والباحثين في التخصصات الأكاديمية المتقدمة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه:
search previous next tag category expand menu location phone mail time cart zoom edit close